شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
نعم بعض الآباء يعذبون أطفالهم

نعم بعض الآباء يعذبون أطفالهم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 24 مايو 201612:48 ص
عندما تسمع كلمة تعذيب ربما يخطر في بالك صورة متهم في قسم شرطة أو في سجن، يقوم ضابط بضربه ليأخذ منه معلومات معينة أو يجبره على اعتراف ما. هذه هي الصورة الأكثر شيوعاً للتعذيب لكنها ليست الوحيدة. فأنا مثلك كنت أتخيل هذه الصورة عندما أسمع كلمة تعذيب حتى عملت في مجال التأهيل النفسي للأطفال. فقد عملت مديراً لوحدة التأهيل النفسي في المؤسسة المصرية للنهوض بأوضاع الطفولة (كان اسمها المركز المصري لحقوق الطفل) من 2006 إلى 2008. في أحد الأيام جاءنا اتصال من مؤسسة شريكة في حلوان. كانوا يستنجدون بنا لإنقاذ حياة طفلة يقوم والدها بتعذيبها، نعم تعذيبها! فهل يعذب بعض الآباء أطفالهم؟ بالطبع بعضهم يعذب أطفاله، ليس كل أب أو أم مثالاً للدفء والحنان. بعض الآباء يعانون من أمراض نفسية أو عقلية شديدة الخطورة، وبعضهم مدمنو مخدرات، وبعضهم يعتقد أن العنف الشديد هو الوسيلة المثلى للتربية. على الفور ذهبت إلى حلوان لأرى ما يحدث. وهناك قابلت الطفلة منى (11 عاماً)، التي لن أنساها ما حييت. منى ليس اسمها الحقيقي، لكنه اسم مستعار لغرض المقال. كان والدها يعذبها كل ليلة انتقاماً من والدتها، طليقته التي قررت أن تتزوج من رجل آخر بعد انفصالها عنه. تركت الأم طفلتيها لدى والديها وسافرت مع زوجها لبلد عربي حيث يعمل. حين علم الأب بما حدث جن جنونه، وأخد الطفلتين إلى منزله، ولأن منى تشبه والدتها كان ينتقم منها. فكان يعلقها في السقف بجنزير صلب طوال الليل ويمنع عنها الأكل والشرب، ويسخن ملعقة معدنية ليكوي بها جلد ابنته، ثم تطور الأمر ليستخدم هذه الملعقة الساخنة ليكوي بها أعضائها التناسلية. أتخيل أنك تقول إنه لا يمكن لأب أن يفعل ذلك، هذه كانت صدمتي نفسها. ربما تراجعت قليلاً حين علمت أنه مدمن مخدرات، لكنني لا أنكر صدمتي عندما رأيت آثار الحروق على جسد الطفلة. ذهبت إلى خط نجدة الطفل وقابلت مديرة الخط شخصياً وأخبرتها بما حدث. خرجنا في لجنة مكونة من 2 من أمناء الشرطة، وممثلين  لوزارتي التضامن الاجتماعي والعدل، وممثل عن خط نجدة الطفل وأنا. ذهبنا إلى بيت الطفلة وقابلنا الأب الذي أنكر كل شيء في البداية، ثم قال: "أنا بس بضربها دي بنت ولازم أربيها". كان لهذه الجملة مفعول السحر، "بنت ولازم تتربى وتتحكم كويس"، وبالتالي لا مانع من ضربها وتعنيفها. هنا هدأ أعضاء اللجنة وأعدوا إقراراً وقع عليه الأب ألا يضربها مرة أخرى. بالطبع استأت من القرار وأصررت على أن نتكلم مع الفتاة وحدها في غياب الأب. خرج الأب من الغرفة فكشفت الفتاة عن آثار الحروق على جسدها. ألححتُ أن نأخذ الفتاة معنا، ونودعها في دار لرعاية الأطفال، إلا أن كل من كان في اللجنة رفض ذلك ورأوا أن حضور الأب لجلسات تثقيفية عن تربية الأطفال مع كتابة التعهد هو إجراء كاف لحمايتها. خرجت من المنزل وأنا في قمة غضبي، كنت أدرك أن الأب سوف ينتقم من البنت بعد رحيلنا. وشعرت لحظتها أنني أتخلى عن طفلة تستغيث حتى وإن لم تنطق بكلمة واحدة، لكن عينيها كانتا تقولان: "أخرجني من هنا قبل أن أموت!". بعد أيام قليلة غادرت الأسرة إلى منزل جديد غير معلوم عنوانه، واستمر الأب في تعذيب ابنته عدة شهور. إلى أن أنقذتها الصدفة من الموت، حين رأت إحدى خالاتها الأب في الشارع، فظلت تصرخ وتستغيث بالمارة، حتى أخذ الناس الأب إلى قسم الشرطة. وأحضروا الفتاة، التي كان لون جلدها أزرق من شدة الضرب والتعذيب وقلة الأكل والمياه. بعدها حُبس الأب وعادت الفتاة إلى والدتها وبدأت أنا رحلة علاجها نفسياً مما تعرضت له. ربما تتخيل عزيزي القارئ أن هذه حالة فريدة، لكن للأسف هي ليست فريدة. فقد كان جزءٌ من عملي رصدَ حالات انتهاكات الطفولة على مستوى الجمهورية. كنت أصل مكتبي الساعة العاشرة صباحاً لأبدأ يومي بفنجان الشاي وأنا أقرأ 4 أو 5 صحف مختلفة لأرصد حالات انتهاك حقوق الطفل. ولن أبالغ عندما أقول إنه لم يكن يمر أسبوع واحد من دون حالة قتل من قبل ولي أمر لطفل، سواء كان ولي الأمر هذا أباً أو أماً أو مدرساً أو صاحب ورشة يعمل فيها الطفل. والحقيقة أن ما يتم رصده هو نسبة ضئيلة جداً، لا تذكر من حجم الانتهاكات التي تحدث في الواقع. من الصعب تحليل أسباب الظاهرة باستفاضة هنا لضيق المساحة، فذلك يحتاج إلى مقال منفصل. لكن باختصار شديد هناك أسباب عدة، منها اقتصادي وثقافي وقانوني. من الناحية القانونية، غياب نظام حماية للطفولة فعال في مصر، يجعل الطفل ضحية سهلة. ففي كل دول العالم المتقدم، منظومة لحماية الطفل من الإساءة، تبدأ بالتوعية وتنتهي بالنظام القضائي. منظومة تنظر للطفل على أنه إنسان ومواطن له حقوق تستحق الحماية مثلها مثل حقوق البالغين، بل أكثر من ذلك. وعلى الرغم من أنه تم تعديل قانون الطفل المصري رقم 126 لسنة 1996 في 2008. التعديل أسس لوجود لجان لحماية الطفولة، دورها هو مراقبة أوضاع الطفولة ورصد ومعالجة أي انتهاك، إلا أن محاولات تفعيل هذه اللجان ما زالت ضعيفة وتتم على مستويات محدودة جداً. المنظومة القانونية التي تتهاون في حماية الطفل تعكس الثقافة إلى حد كبير، فنحن لدينا تسامح عال جداً مع ظاهرة العنف ضد الأطفال. مشهد الأم التي تضرب ابنتها الصغيرة في الشارع أو المواصلات والبنت تبكي وتصرخ وتستغيث بالمارة دون أن يتدخل أحد، هو مشهد معتاد. ما زلنا ننظر للطفل على أنه ملكية خاصة لأهله، من حقهم أن يفعلوا به ما يشاؤون. فالمثل المصري يقول "اكسر للبنت ضلع يطلع لها 24". والحقيقة أن كل ما تعلمته في علم النفس وما رأيت من مئات الحالات أثناء عملي كمعالج نفسي مدى سنوات، يقول إنك حين تكسر للبنت ضلعاً، تعيش البنت متألمة، ولا يطلع لها 24 ضلعاً. في رأيي، إن التسامح مع العنف هو السبب الرئيسي وراء هذه الحالات، بمعنى أنه لو قبلنا بضرب الأطفال كممارسة طبيعية، فكثيراً ما يفلت الزمام في بعض اللحظات ويتطور العنف إلى تعذيب أو قتل. ففي كل مرة يموت طفل على يد ولي أمر، يرد على جريمته بالتعليق نفسه: "لم أكن أقصد قتله كنت أريد أن أعلمه الأدب". في مارس 2015 ذهب الطفل إسلام إلى المدرسة ليكتشف أستاذ وليد أن إسلام لم يقم بحل واجبه المدرسي. فأمره أن "يرفع يديه لفوق" ساعتين كاملتين تحت أشعة الشمس، وحين عجز الطفل عن الاستمرار في هذا الوضع المؤلم جداً، انهال المدرس بالعصا على رأسه وأحدث له نزيفاً في المخ، مات الطفل على إثره. اللافت في القصة أن أستاذ وليد كان معروفاً عنه ساديته واستخدامه للعنف الجسدي المفرط في عقاب التلاميذ، ومع ذلك لم يتدخل أحد لإيقافه! أما في 2011 فانتشر فيديو عن مدرس في حضانة يضرب أطفالاً عمرهم لا يتجاوز الخمس سنوات بعصا خشبية غليظة. تبين لاحقاً أنه مدرس في حضانة في مركز زفتي بمحافظة الغربية. المستغرب أن أولياء الأمور لم يحاولوا إيقاف المدرس حتى ولو بالكلام معه. فهم يعتبرون أن الضرب جزء طبيعي من العملية التعليمية! إن تسامحنا مع العنف ضد الأطفال سكوت على جريمة بشعة، ففي بلادنا إهانة كرامة طفل وتعريضه لألم مبرح، وتعريض صحته وحياته للخطر، أمور معتادة لا تزعجنا. صمتنا وتجاهلنا هما تواطؤ مع الجاني. فطالما اعتبرنا العنف ضد الطفل ممارسة مقبولة، ناكرين أن بعض أولياء الأمور بالفعل يعذبون أطفالهم، لن يكون إسلام آخر طفل قتيل، ولن تكون منى آخر ضحية!

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image