طوال سنوات، كان الضرب هو الأسلوب الوحيد الذي تعتمد عليه أم فارس في تربية أبنائها الخمسة. تعلّل أم فارس سلوكها هذا بكثرة المسؤوليات على عاتقها، برغم تأنيب الضمير الذي ينتابها بعد كل مرة تقدم فيها على ضرب أبنائها.
تقول أم فارس (وهي من سكان منطقة جبل النظيف، أحد الأحياء الشعبية في العاصمة الأردنية عمان): "في إحدى الليالي، وبعد تناول أبنائي وجبة العشاء، رفضت ابنتي الصغرى النوم بحجة أنها لا تزال تشعر بالجوع. لم أتحمّل إلحاحها فضربتها على خدها الأيمن وبقيت آثار يدي على وجهها أياماً عدة".
وتضيف: "عانيت بعدها كثيراً لإعادة اكتساب ثقة طفلتي بي. وبناءً على نصيحة جارتي، توجّهت إلى المؤسسة العربية للتنمية المستدامة “رواد التنمية”، وهي إحدى الجمعيات المحلية الفاعلة، لإيجاد حلول للتعامل مع مشكلتي مع ابنتي وأبنائي الآخرين".
وكانت هذه الجمعية قد أطلقت حملة في بداية العام 2012 تحت عنوان "بيوت آمنة" وذلك للحد من الضرب التأديبي الذي يمارسه الأباء بحق أبنائهم، والمنتشر بشكل واسع في الأردن. ووفقاً لمديرتها العامة سمر دودين: "تمكنت الجمعية التي يشمل نطاق عملها منطقتي جبل النظيف والمريخ في عمان الشرقية، من تنفيذ 583 حملة لوقف الضرب والعنف الجسدي ضد الأطفال".
أرقام مخيفة
وبرغم وجود عدد من المبادرات للحدّ من العنف الجسدي ضد الأطفال، كشفت دراسة حديثة أعدتها منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسيف" بعنوان "محجوب عن الأنظار" أنّ "67% من أطفال الأردن تعرضوا للعنف البدني كعقاب تربوي". تناولت الدراسة 190 دولة وتطرقت إلى واقع العنف الجسدي ضد الأطفال في عدد منها. وكشفت أن نحو 85% من الأطفال في اليمن يتعرضون للضرب التأديبي، و73% في تونس، و78% سوريا، و82% في مصر و62% في العراق، و67% في فلسطين، ولم تتوفر أرقام في شأن الدول العربية الأخرى.
في المقابل، تعرّض حوالى 40% من الأطفال في اليمن ومصر لعنف جسدي شديد، و21% في الأردن، و 32% تونس، و27% في العراق والأراضي الفلسطينية، و25% في المغرب وسوريا، و12% في لبنان.
قوانين راعية
تدق هذه الأرقام ناقوس الخطر لاسيما في ظل وجود مواد قانونية تبيح ضرب الأباء للأبناء في معظم الدول العربية. يُبين مستشار الطب الشرعي الخبير لدى مؤسسات الأمم المتحدة الدكتور هاني جهشان أن جميع الدول العربية تبيح الضرب التأديبي بمواد قانونية ولا تعتبره جريمة باستثناء تونس التي ألغت المادة القانونية التي تبيح الضرب التأديبي في العام 2010.
وبحسب دراسة أعدّها جهشان حول القوانين التي تبيح الضرب التأديبي في العالم العربي، تنصّ المادة 62 من قانون العقوبات الأردني، على أن القانون يجيز "أنواع التأديب التي يوقعها الوالدان بأولادهما على نحو لا يسبب إيذاءً أو ضرراً لهم ووفق ما يبيحه العرف العام". وبحسب جهشان، تنصّ قوانين العديد من الدول العربية على مضمون مشابه وإن كانت المفردات والصياغة تختلف من دولة إلى أخرى.
يقول جهشان: "ما يعزز هذه البنود القانونية هو الثقافة المجتمعية التي تقبل الضرب والعنف ضد الأطفال كوسيلة تربوية. هنالك العديد من الحالات التي تحوّل بها الضرب التأديبي إلى عنف شديد نتج عنه عاهة دائمة أو إزهاق في الأرواح، عدا التبعات النفسية السيئة على الطفل".
من أبرز قصص الأطفال الذين قتلوا بسبب الضرب، تحت ذريعة التأديب، قصة الطفلة حسناء ذات العشر سنوات، التي تصدرت وفاتها وسائل الإعلام. لقيت حسناء حتفها على يد والدها في مارس الماضي في مدينة الزرقاء بالأردن، نتيجة للضرب المبرح بعد أن اتّهمتها إدارة المدرسة بسرقة مبلغ قليل من المال. وهنالك كذلك قصة طفل مصري يبلغ من العمر 13 عاماً قضى على يد والده في يونيو الماضي في منطقة الإسماعيلية بعد أن أصرّ على زيارة والدته المريضة خلافاً لرغبة والده.
عالمياً، هنالك 44 دولة جرّمت العقاب البدني ضد الأطفال من قِبل الأهل، بحسب بيتر نويل، رئيس المبادرة العالمية لإنهاء جميع أشكال العقاب البدني ضد الأطفال. لكن الإشكالية تكمن في أنّ أطفال هذه الدول لا يشكلون سوى 10% من أطفال العالم. وفي وقت كان السويد أول دولة تجرّم العقاب البدني عام 1979، تجد دول أخرى، تحديداً الدول العربية والنامية، صعوبة في إلغاء هذه البنود، معتبرة أنّ إلغاءها يتعارض مع العرف السائد لديها.
رفض عام لتجريم ضرب الأطفال
في ورشة عمل حول "بدائل العقاب البدني ضد الأطفال" عقدت في العاصمة الأردنية عمان، نظمها المجلس الوطني لشؤون الأسرة وشاركت فيها وفود من دول خليجية عدة، اتّفق المشاركون على الآثار السلبية لضرب الأطفال وعدم نجاحه كأسلوب للتربية فضلاً عن مخالفته اتفاقية حقوق الطفل التي وقّعتها غالبية الدول العربية والتي تنص على ضرورة تجريم ضرب الأطفال.
لكنّ المشاركين أنفسهم الذين مثّلوا مؤسسات رسمية وجهات قضائية وتشريعية رفضوا من حيث المبدأ إلغاء التشريعات التي تبيح الضرب التأديبي، مبدين تخوفهم من أنّ إلغاء هذه النصوص في ظل ثقافة تبيح ضرب الأطفال سيتسبب بخلق مشاكل للأسر نتيجة الملاحقة القضائية للأهل المعنّفين.
دوافع اجتماعية لا شرعية
تبرّر الكثير من الأسر، بحسب دراسات محلية تم عرضها خلال الورشة، ضرب الأبناء، بأنه وسيلة تربوية متاحة شرعاً. لكن الداعية الإسلامي الدكتور محمد نوح القضاة، يلفت إلى أن هناك خلطاً لدى الأسر العربية بين ما تنص عليه الشريعة الإسلامية والتقاليد الاجتماعية. ورأى أن القضاء يظهر، من الناحية الاجتماعية، أنّ ضرب الأبناء في مجتمعاتنا مقبول، لكن من الناحية الشرعية فإن "القاعدة العامة تحريم الضرب والعنف".
ويضيف: "الشرع الإسلامي وضع ضوابط شديدة فيما يتصل بضرب الأبناء وجعلها آخر الخيارات أمام الوالدين، فالأجدى أن يقوم الأهل بتعريف أبنائهم بالسلوكيات المحببة والسلوكيات السلبية من ثم التنبيه واستخدام أسلوب الثواب والعقاب، على أن يكون العقاب بالحرمان من أمور محببة للطفل وليس العقاب البدني".
وفي ما يتعلق بالعقاب البدني، رأى أنه "محدد في الشرع بأن يكون غير مؤذٍ وفي مناطق محددة في الجسد هي الكتف والفخدان"، مبيناً أنه "شرعاً لا يجوز ضرب الأطفال على الوجه أو الرأس أو استخدام أدوات في الضرب".
سوء استخدام للسلطة
من الناحيتين التربوية والثقافية، ترى مستشارة الطفولة المبكرة الدكتورة هالة حماد في العنف ضد الأطفال، بأنّه سوء استخدام للسلطة، وقد يعرض سلامة الطفل وسير نموه وتطوره الجسدي والنفسي والعقلي للخطر، لافتةً إلى أن تلك المشكلة قائمة في كل الدول العربية نتيجة للثقافة التي تتقبل هذه السلوكيات بسبب ضعف المعرفة بوسائل التربية الحديثة. ويؤكد الدكتور هاني جهشان على الأمر معتبراً أن "الضرب التأديبي يحط من احترام الطفل لذاته، ويؤذي حماسه، ويولد الغضب والعصيان وعدم التعاون لديه"، مشيراً إلى أنّ العقاب الجسدي للطفل غير فعال وله عواقب ومضاعفات حقيقية.
نشر الموضوع على الموقع في 15.01.2015
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...