يرصد الكاتب السعودي عبده خال في روايته الجديدة "صدفة ليل" التحولات التي طرأت على المجتمع السعودي في العقود الأخيرة، وكيف انتقل من الهدوء والدعة والتسامح إلى الصخب والعنف والتطرف.
تتخذ الرواية جزءاً من تسميتها من المصادفات التي تحدث في الحياة وتغيّر مجرى الأحداث، وتكون سبباً في أحداث أخرى، فالكاتب يرى أن "الأقدار ما هي إلا لحظات توقّف. ينشأ أثناء السكون فعل متحرك، فلا وجود للصدفة. الصدفة هي لحظة التوقف المتولدة منها معادلة الوجود.. الحركة.. الحياة.. الأحلام.. فكل حركة تتجه بنا نحو الفناء أو الحياة". هكذا، يحاول أن يسلسل أحداث حبكته، بحيث تكون متوالية من لحظات التوقّف التي تنجم عن كل واحدةٍ منها حركة تالية تمضي بالحكاية إلى الأمام.
التوقّف الأول يكون بسبب عطبٍ في سيارة "البيشي"، مما يضطره إلى المكوث في استراحة على طريق خط الحجاز، أربعة أيام، في الفترة نفسها التي يكتشف فيها الناس أن صاحب المقهى يقدّم لهم لحم حمير، فيهجمون على المكان ليقتصّوا من جميع موظفيه والعاملين فيه، وحين يغادر "البيشي" بسيارته عائداً إلى "جدة"، يجد في طريقه أحد عمال المقهى هارباً بعائلته خوفاً من بطش الناس. "فور مغادرته المقهى، مستلماً خط الحجاز، وقبل أن يبتعد كثيراً عن الاستراحة التي استوطنها لأربع ليال، اعترض طريقه شخص بإشارات ملحّة للتوقف، وكانت المفاجأة أن ذلك الشخص هو نفسه النادل الذي احتفى به أول وصوله إلى المقهى. "أرجوك أنا وأسرتي معرضون للموت إن لم تقلّنا من هذه المدينة".
هكذا، يأخذ البيشي، النادل "طارش" وعائلته، ويسكنهم في بيت إلى جوار بيته، ومن هنا تبدأ كل الأحداث التالية، التي تتوزع على امتداد جيلين.
يتطرق الكاتب في روايته إلى موضوع العبودية، فالبيشي ينتمي إلى سلالة سوداء حصلت على حريتها قبل وقت قريب، ولكنه مع ذلك يحنّ إلى عبوديته، إذ وجد نفسه بعد حصوله على حريته ملقى في المجهول، وليس لديه شيء ينتمي إليه سوى أسياده. تحاول الرواية أن تبيّن الآثار العميقة جداً، التي لا يُحكى عنها عادة، لحالة العبودية، وكيف أنها تترك الإنسان بعدها مشطوراً بين حقيقة وضعه كإنسان حر، وماضيه الذي لا يمكنه أن يتخلص منه، فيبقى يعاني من حالة عدم اتزان تسم حياته كلها، وترافق سلالته كلعنة، فالناس تظل تنظر إلى كل منتمٍ لهذه السلالة على أنه عبد، مهما مرَّ الزمن، هكذا تجرح العبارة: "أتزوج ابنتك إلى عبد؟" أذن "فائز" ابن البيشي الوحيد، حين يتقدم طالباً يد "قطوف" ابنة "طارش" بعد سنوات من تلك الحادثة التي أنقد فيها والده العائلة.
يثير زواج "فائز" بـ"قطوف" التي كانت فتنةً بجمالها لكل رجال الحيّ، واحداً من الشباب الذين كانوا يتدلهون بحبها، هو "سليم" الذي يتمادى في عبثه إلى حد الافتراء، فيتفق مع إحدى بائعات الأقمشة أن تبيع لقطوف ملابس داخلية حمراء ثم تسترجعها منها بعد أيام بطريقة ما، ليأخذها "سليم" ويريها إلى شبان الحيّ كدليل على أنه كان مع "قطوف" وأنها من أعطته الملابس. ولم يكن يدري في ذلك الوقت أنه سيدفع ثمن فعلته تلك غالياً جداً ولكن بعد أزمان طويلة، حين يجزّ "فائز" رأس ابنه، ويعود هو نادماً إلى تلك الرسالة التي كتبتها له "قطوف" واحتفظ بها مدى سنوات. "أنا صاحبة الكيلوت الأحمر. كل رجال الحيّ سمعوا بذلك الكيلوت. ووفق ما وصلني من أقاويل أن أيدي المسنّين - قبل المراهقين - تناقلته وتعددت ألوانه في ما بعد، وكل من أمسك بلون ادّعى أنني وهبته إياه. هل أحتاج يا سليم أن أذكّرك بنفسي؟ أما أنا فلم أنسك قط".
القضية الأبرز التي تناقشها الرواية هي زيادة التطرف، والتعصب الديني، إذ يرى الكاتب أن التحوّل الذي طرأ على المجتمع كان سريعاً جداً، ويمكن ملاحظته خلال جيلين، فمقابل جيل الآباء الذي كان يمثل الدعة والعطاء، كان جيل الأبناء الذي يمثل التطرف والشحّ، وما بينهما زمن توحّش فاختطف كل شيء وترك الكراهية. إذ ينضم "فيصل"، الابن الوحيد لسليم، لإحدى الحركات الإسلامية المتطرفة، وينغمس في أفكارها، لا بل يتفوّق عليها في التعصب، فيخطط لتفجير مدينة جدة "المدينة الفاسقة"، ويشرع في تنفيذ مخططه، لكن لحظة توقّف (صدفة) أثناء تنفيذ ما اعتزمه، ينشأ خلالها فعلٌ متحرك يغيّر كل شيء. ويعيد الشاب إلى حياته التي كاد يفقدها مفجّراً نفسه، ومهلكاً مدينة بأكملها. ويعيده إلى الحب الذي تركه في البيت المجاور لبيته... لكن يبدو أن الضغينة صارت أكثر انتشاراً في جسد هذا الزمن، ولذلك تتخذ حبكة الرواية منحى آخر، تعود فيه إلى أحداث سابقة لتكمل معها معادلات الحياة. "نظن أننا نفعل الأشياء صدفة، بينما لا ندرك أن ثمة معادلات لا حصر لها نكون في كل منها عنصراً من عناصرها، حتى إذا حصلنا على قيمتنا العددية تكون النتيجة واحدة لكل فعلٍ نحدثه!".
عبده خال كاتب وروائي سعودي، من مواليد 1962. يعمل في الصحافة منذ عام 1982. له بضع مجموعات قصصية، وكتابان في توثيق الحكايات الشعبية: "قالت حامدة: أساطير حجازية"، "قالت عجيبة: أساطير تهامية".
أصدر تسع روايات: "مدن تأكل العشب"، "الطين"، "فسوق"، "لوعة الغاوية"، "الموت يمر من هنا"، "الأيام لا تخبئ أحداً"، "نباح"، "صدفة ليل"، و"ترمي بشرر" التي فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) سنة 2010.
الناشر: دار الساقي/ بيروت
عدد الصفحات: 240
الطبعة الأولى: 2016
يمكن شراء الرواية من موقع نيل وفرات أو متجر جملون
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...