يقودك إسماعيل غزالي في روايته الجديدة "النهر يعض على ذيله" إلى أدغال السرد، ورويداً رويداً ينسج حولك متاهة، هنا عليك أن تقرر إما أن تكمل أو ترمي الرواية إلى غير رجعة. فالمتاهة التي أنت في صدد التوغل فيها، الداخلُ إليها مفقود والخارج منها مسحور. متاهة بناها الكاتب بمزيج رهيب من الأحداث العجائبية واللغة الإبداعية، خالقاً منها ألف ليلة وليلة أطلسية، على ضفاف النهر المسكون بالحياة والأحلام، والأصوات والوشوم الأسطورية.
الرواية تبدأ بمشهد حريق مسرح "برودواي" الشهير في نيويورك، وفي اليوم التالي تطلب الممثلة الشهيرة أريانا من لوكيوس، مصوّرها الفوتوغرافي الشخصي، مرافقتها في رحلة عجيبة إلى روما، ثم إلى المغرب. "مسرح برودواي التاريخي في ذمة النار! هو العنوان الصاعق لاحتراق مسرح برودواي الغامض، تتناقله الجرائد والتلفاز والإذاعات. كان المصوّر لوكيوس قد هرع على تخوم الفجر إلى المكان الفاحم بعد أن هاتفه رئيس تحرير مجلة "قيامة وأبدية"، لم ينم لحظتها لأنه قضى ليلة حميمة مع الممثلة لوليتا في شقة بحي منهاتن في قلب نيويورك. الليلة التي سجلت درجة الحرارة أدنى نزول لها في تاريخ الشتاء الأمريكي، 50 درجة تحت الصفر، كان الأمر يتعلق بزمن جليدي طارئ".
في تلك الرحلة الغريبة ستقصّ أريانا الممثلة الملقبة بالهندية الحمراء على لوكيوس سيرة حياتها العاصفة، ولادتها في المغرب، في بيت أعزل على سفح جبل يطل على نهر أفعواني، ذكريات طفولتها والشخصيات التي لا تبارح ذاكرتها، خالها داوود وعشقه للمرأة المسمّاة عروس النهر التي يمتلئ جسدها بالوشوم، الفرنسية كارولين ورغباتها الجنسية الغريبة، الراعي الأثعل ورجل البريد. ستروي عن أزهار الدفلى، وعن طقوس سرية للنهر، عن اكتشافها لكتاب ألف ليلة وليلة، عن حصانها الذي ولد في لحظة ولادتها نفسها، وعن الصدفة التي قادتها لتكون ممثلة مشهورة.
يكتشف لوكيوس أن اختيارها له لم يكن مجرد مصادفة، فهو أيضاً يتحدر من أصول مغربية، ولد في مصبّ النهر نفسه. يروي لها بدوره عن ساعات الرجل الذي تبنّاه بعد موت أبيه، عن الساعة الغريبة التي صنعها على شكل أفعى تعض على ذيلها، محتكماً في صناعتها على إيقاع النهر، فقامت زوجته سالفيا الرسامة برسم لوحة للنهر يقبّل فيها منبعه مصبّه. يروي لها عن حلم البنّاء دالوس بأن يبني مئة جسر على النهر بأشكال مختلفة، وعن أشياء كثيرة، ليكمل لها ما بدأته في هذياناتها.
يحضر عدد من الكتب بقوة في الرواية، فتتعانق مع أحداثها، ومنها كتاب "الحمار الذهبي" للوكيوس أبوليوس، إذ يذهب كل من أريانا ولوكيوس في رحلة تخيّلية إلى مدينة كل أسماء أماكنها وشخصياتها مأخوذة من تلك الرواية، كما يحضر كتاب "ألف ليلة وليلة"، لا ككتاب تغرم به أريانا في طفولتها وحسب، بل ككتاب تأخذ الرواية منه أسلوب الحكايات التي تتناسل إلى ما لا نهاية، لتغدو الرواية ألف ليلة وليلة لكن بحكايات جديدة، مختلفة عن الأصل في أنها تنتمي إلى العالم الأطلسي ومفرداته. إضافة إلى حضور بعض الكتب الأخرى التي ليس لها وجود إلا في متن الرواية فقط.
بعد أن تصل الممثلة والمصوّر إلى النهر يقومان برحلة عكسية من مصبّ النهر إلى منبعه، وهناك تفجّر أريانا سرّ حريق المسرح الشهير، وتعرض مسرحيتها الأخيرة، فيثور الرجال الملتحون ويبدؤون برجمها لتسقط مضرجة بالدماء وتغيب. "رسمت ابتسامة وغابت. ظلّ الزبد يتطاير من النهر بشكل متواتر ومتعاقب وكثيف... إلى أن حجب جهات الرؤية... حجب الجبل والنهر... حجب الغابة والوادي... حجب العالم".
بهذا المشهد الآسر ينتهي القسم الأول من الرواية، ويبدأ القسم الثاني الموسوم بـ"إيوس: الباب الخلفي للجنة"، فتولد في وقت قيامة النهر وتطايرِ زبده بنتٌ موشومة في مكتبة، تلك الفتاة تسمى باسم المكتبة إيوس. في هذا القسم يعاود غزالي نسج الحكايات التي تلتف على نفسها، فيروي عن ولع إيوس بالمكتبات والكتب، ويروي عن شخصيات كثيرة بحكايات عجائبية ومصائر غرائبية، عن سارق كتب يحب معلمة لغة فرنسية، لكنها تقتل وتُحرق مكتبتها، عن مايا التي تقضي 30 يوماً في مكتبة تحت الأنقاض. يحكي عن صديق يحاول جمع صديقه مع المرأة التي يحبها لكن الأقدار تسبقه، فيقرر جمع هيكليهما العظميين في قبلةٍ مستمرة، وعن حارس مرمى يتزوج كاتبة قصص بوليسية تكتب قصة مقتلها ثم تُقتل فعلاً. كما عن فتاة تحتفظ بذاكرتها بمشهد أبيها مصارع الثيران يقتل أمها فتقرر الانتقام من عشرة رجال حين تكبر، تاركة وشم الثور على أجساد ضحاياها. وعن كتاب الحواشي الذي يتغيّر عنوانه كلما تغيّر صاحبه، عن باكو فرنانديز الكاتب الروائي الذي يكشف السرد أنه ابن الممثلة لوليتا التي ورد ذكرها في أول الرواية.
في هذا القسم يروي أيضاً بشكل كثيف عن مكتبات ومكتبات ومكتبات، كلٌّ منها بني بشكل معماري عجيب، ويضم كتباً عجيبة. يحكي عن رغبات وشهوات لاهبة من الجنس تمارس فيها، عن حكايات تتعانق مع هذه المكتبات.
هكذا يخلق الكاتب ألف حكاية، ومع كل حكاية جديدة، هناك مكتبات كثيرة مصيرها أن تحترق، هناك شخصيات كثيرة مصيرها الموت قتلاً. هناك قيامة تحدث دائماً، ومع كل حكاية جديدة يلتف الكاتب بحبكة أفعوانية فيربطها بما قبلها. يستلهم من رحلة النهر إيقاعه، يهدأ السرد في المناطق الهادئة من النهر، يثور ويتشعب ويصخب في الأماكن الهادرة من النهر، وفي النهاية، في ختام الحكايات ينهي الكاتب ألعابه الروائية، يعود إلى مسرح برودواي، يضبّب الزمن، يجعله هلامياً، وكأن اللحظة الماضية هي لحظة حاضرة وربما مستقبلية. يلفّ الرواية على نفسها، كما يلتف النهر عاضاً على ذيله، ويتركك تخرج من متاهته وفي رأسك تضجّ أصداء الأسئلة حول القيامة والأبدية، وحول ما كان وما لم يكن.
إسماعيل غزالي قاص وروائي مغربي، من مواليد مريرت، الأطلس المتوسط 1977. له أربع مجموعات قصصية، صدرت جميعها في كتاب واحد بعنوان "بستان الغزال المرقط"، ويضم: "عسل اللقالق"، "لعبة مفترق الطرق"، "منامات شجرة الفايكنغ"، و"الحديقة اليابانية". وله روايتان قصيرتان نشرتا تحت اسم "مئوية هسبرس"، وروايتان طويلتان: "موسم صيد الزنجور" التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية عام 2014، و"النهر يعض على ذيله". حاز غزالي جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي في الخرطوم 2011 عن مجموعته القصصية الأولى "عسل اللقالق".
الناشر: دار العين/ القاهرة
عدد الصفحات: 600 الطبعة الأولى: 2015 يمكن شراء الرواية من موقع نيل وفرات، ومن موقع آرابيك بوك شوب.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...