تجري "شهلا العجيلي" في روايتها الثالثة "سماء قريبة من بيتنا" نوعاً من التوازي بين سيرة حياة بطلتها "جمان بدران" وإصابة جسدها بالسرطان، وتاريخ مدينة الرقة التي ولدت فيها وإصابتها بالخراب بعد نشوب الحرب السورية ونشوء الجماعات الإسلامية المتطرفة.
بطلة الرواية "جمان" ابنة مدينة الرقة السورية، حاصلة على دكتوراه في الأنثربولوجيا الثقافية، وتقيم في مدينة عمان الأردنية، تلتقي مصادفة على متن طائرة بـ"ناصر العامري"، شاب فلسطيني، درس في أميركا، وتزوج هناك قبل أن ينفصل عن زوجته ويعود إلى الأردن. هذا اللقاء ستتبعه لقاءات أخرى تكتشف فيها "جمان" أن بينها وبين "ناصر" ذاكرة مشتركة، فهي قد عاشت ودرست في مدينة حلب ردحاً من الزمن، وهو زار المدينة مرات كثيرة لأن عائلة أمه إحدى العائلات الكبيرة فيها. هكذا تبدأ الذكريات بالتدفق وتبدأ معها علاقة حب شفافة بالنمو، "أعادني ناصر إلى مناطق محببة في ذاكرتي، كنت قد هجرتها، ولم أظن أنني سأستعملها يوماً. (...) امتد حديثنا لساعات، أحيينا فيها روح الماضي، ورائحة الياسمين والعسليّة والزيزفون، والرطوبة العابقة ببخار مطابخ بيوت محطة بغداد العتيقة. إن ذاكرة مشتركة، لا تعني بالضرورة مشاعر مشتركة، لكن ناصر يشاركني ممتلكات في غاية الأهمية، يشاركني في حلب، ذاكرتي الثانية، ونصف هويتي".
علاقة الحب هذه ستتطور بعد إصابة البطلة بسرطان الغدد اللمفاوية، إذ لن تجد من يقف إلى جانبها وهي بعيدة عن أهلها إلا "ناصر". ومع شهور العلاج الطويلة ستبحر البطلة بذاكرتها بعيداً، فتقصّ حكايات العائلة في الماضي، ومصائرها في الحاضر بعد أن حدث ما حدث في وطنهم.
يتوزع السرد على مناطق جغرافية عديدة حول العالم، تتعقب عبرها الكاتبة شخصيات روايتها، فتروي عن والد جمان المهندس "سهيل بدران"، وهو سليل أسرة إقطاعية كانت تمتلك أراضي شاسعة في منطقة وادي الفرات، درس في جامعة بوسطن وعاد إلى بلده ليشارك في مشاريع عمرانية، ويؤسس عائلته. وقد تعددت حكايات هذه العائلة ومصائرها، فأخته "ليلى" أصيبت بداء المفاصل وتمت الاستعانة بمدلك خاص لها، فهربت معه وتزوجته، وأخوه "فيصل" تزوج إيطالية وانقطعت أخباره بعد أن سافر إلى العراق. وبناته الثلاث "سلمى" التي عشقت قرصاناً ثم أضاعته وتزوجت من آخر، و"جود" الابنة الصغرى التي وافقت على الزواج من شاب أفغاني ينتمي إلى تنظيم داعش بعد أن احتلوا المدينة وعاثوا فيها فساداً، وأما البنت الثالثة فهي "جمان" المصابة بالسرطان ولا تستطيع الذهاب إلى أهلها ولا يستطيعون هم الخروج من مدينتهم والقدوم إليها.
تضيء الرواية على مراحل هامة من التاريخ السوري إذ يحضر كخلفية للحكايات التي ترويها البطلة عن عائلتها، ويمتد من أوائل القرن الماضي إلى الوقت الحاضر. وتركز بشكل خاص على محافظة الرقة، التي احتضنت حضارات قديمة، وكيف أن هذه المحافظة تعرضت لإهمال السلطة، التي كانت لا تقوم بأي مشاريع تنموية فيها، ثم جاءت الجماعات الإسلامية واحتلتها وما كان من هذه الدولة إلا أن تخلت عن المحافظة وتركتها لهذه الجماعات. "المدينة كلها مناطق أثرية، حضارات بنيت فيها فوق بعضها البعض، منذ الألف العاشر قبل الميلاد، وبقي من آثارها القائمة ما يعود إلى الحقبة الرومانية والإسلامية الأموية والعباسية والسلجوقية، حتى في أثناء حكم العثمانيين واحتلال الفرنسيين كان لها حضور فاعل ثم لم يعد أحد يتذكرها، الحكومة بذاتها نسيتها، ولم تولها اهتماماً إلا حين يتم التفكير في مكان لمسؤول ما تزال جيوبه فارغة، وبحاجة لأن تملأ. وها هي الحكومة الآن حينما أرادت أن تتخفف من حملها تخلّت عنها وسلمتها كما تسلم عظمة إلى كلب، لجماعات متطرفة، صارت أرضاً لمعاركها ونزواتها المريضة".
ترصد الكاتبة عبر بطلتها المشاعر الدقيقة التي ترافق المصاب بالسرطان خلال رحلة علاجه، وما هي الأفكار التي تراوده تجاه الحياة، والموت، والماضي والحاضر، والحب والرغبة... كما تسلط الضوء على التغيّرات النفسية والجسدية التي تصيب المريض بسبب جرعات الدواء الكيميائي.
تتوالد الحكايات على امتداد الرواية، فمن حكايات العائلة إلى حكاية الطبيب الذي يعالج المريضة وحكايات بعض المرضى معها، ومن المشفى إلى مخيم الزعتري الذي يحتضن اللاجئين السوريين وحكاياته، ومن التاريح القريب إلى الحرب السورية الأخيرة ومجرياتها، لنصبح أمام سرد موزع على عدة أزمنة وعدة أمكنة وعدة شخصيات، تتجمع في حكايات متقاطعة ومتداخلة لتروي عن حياة أفراد عاديين، وجدوا أنفسهم في صراع مع ظروف وأقدار قاسية. وكل تلك الحكايات يتم سردها من خلال البطلة التي تحنّ إلى أماكن الطفولة وذكرياتها فتحكيها وتلوذ بها في مواجهة الموت والخراب الذي يطال الجسد والوطن. "أغصان الصفصاف انثنت من شدة الهواء حتى لامست رأسي، ثم انفرجت، فاجأتني قبة السماء وقد انجلت لعيني شيئاً فشيئاً، وحين انطفأ صف من الأضواء في أحد طوابق المركز، صارت النجوم أكثر لمعاناً، وبدا كل شيء محتوماً، الألم والموت والشفاء. السماء هنا قريبة، قريبة جداً، ولا تحتاج إلى سلالم أو حبال".
شهلا العجيلي روائية سورية، حاصلة على الدكتوراه في الأدب العربي الحديث والدراسات الثقافية. تعمل أستاذة للأدب في الجامعة الأميركية في الأردن. لها مجموعة قصصية "المشربية" وكتابان في النقد "مرآة الغريبة"، "الخصوصية الثقافية في الرواية العربية". وثلاث روايات: "عين الهر" التي فازت بجائزة الدولة الأردنية في الآداب عام 2009، و"سجاد عجمي"، و"سماء قريبة من بيتنا" التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر 2016.
الناشر: منشورات ضفاف/ بيروت - منشورات الاختلاف/ الجزائر
عدد الصفحات: 342
الطبعة الأولى: 2015
يمكن شراء الرواية على موقع نيل وفرات أو موقع متجر الكتب العربي جملون
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...