كانت صورة ناصر حصري، قادماً إلينا بسيارته الدودج البيضاء المكشوفة، واحدةً من أقدم ذكرياتي. كان ذلك عام 1949، وناصر كان في عامه التاسع عشر، وقد أرسل من دمشق إلى اليابان ليساعد أخاه فريد في أعماله التي بدأت تزدهر في اليابان.
كان ناصر وسيماً ورياضيّاً، ودائم الابتسامة، يحبّ الأطفال، وكان يعتني بنا أنا وأخي الكبير جاك، ويبدو أنّ الأمر كان يعجب والداي، إيزرا ولوسي، لتخلصهما منّا بضع ساعات.
قدم أبي، إيزرا، إلى اليابان من حلب، عام 1933، وكان عازباً. وقتذاك، لم يكن يعمل في مجال التصدير إلا القليل فقط من الرجال العازبين، ثمّ عاد إلى سوريا ليتزوج أمّي عام 1938، وبالطبع كان زواجاً تقليدياً مرتّباً بشكلٍ مسبق، ليعود بعده إلى اليابان مع عروسه وأمّه فريدة. أمّي ما زالت تعيش في اليابان، ولديها أطيب الذكريات عن سوريا، لا أحبّ أن أسألها عن شعورها، لأنني لا أريد تذكيرها برحلتها الطويلة.
اعتاد ناصر أن يأتي إلينا بشكل متكرّر، وعندما يصل، نتدافع قافزين إلى سيارته، لا نضع حزام الأمان، ولا نجلس في المقاعد المخصصة للأطفال، ولا أي نوع من الضروريات المزعجة التي نستخدمها الآن. كان يأخذنا أحياناً إلى بحيرةٍ في الجبال، تبعد عن البيت نحو عشرين دقيقة، إلّا أنّها كانت تبدو لنا كأطفال، رحلة استكشافٍ في الهيمالايا.
كنا نستأجر قارب تجديف ومجاذيف لمدّة ساعة، ثمّ يقوم ناصر بمكافأتنا بالمثلّجات قبل إعادتنا إلى البيت. وفي مناسبات أخرى، كان يأخذنا إلى الشاطئ، كنّا نملك كوخاً بحريّاً للاصطياف في منطقة تبعد نحو نصف ساعة عن البيت. كان يحبّ الأطفال، وكنّا نبذل كلّ ما في وسعنا لنحررّه من الأوهام، وقد دامت صداقتنا ومحبتّي لناصر كلّ حياتي، وعندما كبرت وبدأت عملي في المنسوجات، كنت أشتري الأقمشة من ناصر، وأرسلها إلى تايوان والفليبين، حيث نملك معامل التصنيع.
[caption id="attachment_48895" align="alignnone" width="350"] طوني شويكي[/caption]هاجرت بعد ذلك إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وعندما بدأت عملي الحقيقي في العقارات، كان ناصر أولّ المستثمرين في المشاريع التي كنا نأخذها، وعندما خسرنا المال في هذه المغامرة، ذهبت إلى ناصر وشرحت له انهيار الوضع الاقتصادي بشكل عام، وكيف أننا لم نستطع دفع الأرباح للمستثمرين. لم يلمني أو يحتّج، وقلت له إنني سأعيد أمواله من أرباح تجارة المنسوجات في العامين أو الأعوام الثلاثة المقبلة، ولن يربح المال بذلك، لكنّه على الأقل سيستعيد أمواله التي وضعها في الاستثمار، وهذا ما فعلت. وعندما شرحت لأبي ما حدث، وعن خسارتنا في أعمال البناء، وأنني التزمت إعادة الأموال إلى ناصر، أخبرني أن ما فعلته هو الأمر الصحيح. وكان أخذ الموافقة والاستحسان من أبي، على ما فعلت، أمراً بقي معي كلّ حياتي.
مرّت السنون، وتغيّر الوضع السياسي في العالم، نشأت إسرائيل، وكان هناك الكثير من قلّة الثقة والتواصل. أما علاقتي مع ناصر فلم يغيّرها شيء، كنّا نعمل معاً ونأكل معاً ونتبادل الثقة، ويبدو القول إنه رجل عظيم، تقليلٌ من شأنه. فحين ضرب الزلزال بيتنا في كوبي، اليابان، عام 1995، كان ناصر أول المطمئنين عن أحوال أمي، إذ قدم ليتفقدّها ويعرض المساعدة. كانت صداقة عمرٍ كامل، وأفخر اليوم أنني أكملها مع أبنائه وأحفاده، آملاً أن أشهد أولادهم حتّى. وهذه خبرتي وواقعي.
عندما نتحدّث عن الأمة العربية وإسرائيل، أعود إلى جذوري، وإلى قلب انتمائي، فأقول لأصدقائي، إننا نحن اليهود والعرب، مرتبطون بعضنا ببعض، فعلى كلّ جيل تعزيز هذا الارتباط والتركيز على انتمائنا الإنساني الكبير، من خلال أفعالنا الحسنة، وعلينا من خلال تلك الأفعال الحسنة تجاوز كل التحديات التي تواجه كلّ منّا في جيله. أنا لا أعرف كثيراً في السياسة، لكنّكم إذا سألتموني من هو أعزّ أصدقائك وأكثرهم وفاءً لك، فسيكون جوابي هو ناصر حصري.
وإذا سألتموني اليوم، من أنت فسيكون جوابي أنا أمريكي، وياباني، وسوري ويهودي. ولا أجد في ذلك تناقضاً. نملك جميعاً الفرصة لنساهم في نشر التفاهم بين جميع الناس، الذين نتشارك معهم في سخاء هذا الكوكب، ورحلة العمر. علينا أن نعمل معاً ونبذل أقصى ما عندنا لنؤمن مستقبلاً مشرقاً لأطفالنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه