حين تتحوّل الشعارات إلى

حين تتحوّل الشعارات إلى "وطن"… ويغيب الوطن الحقيقي

رأي نحن والتاريخ

الخميس 18 ديسمبر 20256 دقائق للقراءة

لم تكن الشعارات في بداياتها أكفاناً تغطي عجز العالم، بل كانت صرخاتٍ أولى في مسيرة طويلة لم يكن فيها للفلسطيني مساحة كلامٍ أخرى. كانت عناوين تتقدّم الجماهير قبل أن يتقدّم الوعي، وكانت لافتاتٍ ترفع الذاكرة إلى السماء حين كانت الجغرافيا ساقطة تحت أقدام الاحتلال.

في تلك اللحظة البدائية من التاريخ لم تكن الشعارات زينة، بل كانت وسيلة دفاع رمزية تحافظ على اسم الشعب في وجه محاولات محوه. كانت بمثابة طبقة جلدٍ إضافية تحمي الجرح من التراب قبل أن يأتي وقت الشفاء. لم يكن العالم يعترف إلّا بالمواثيق والقوة، ولم يكن للفلسطيني أن يستند إلى دولة، فاستند إلى كلماته، وصارت الكلمات خياماً مؤقتةً لمشروعٍ بلا أرض، وخرائط شعورية تعيد ترتيب التاريخ حين غابت الخرائط السياسية.

الشعارات… حين تتحول من متحول إلى ثابت

غير أنّ الشعارات، شأنها شأن كل أدوات البداية، تحمل خطر التحوّل إلى نهايات إذا بقيت في مكانها. ما يُقال في لحظة المقاومة الأولى يحفظ الضوء، لكن حين يتحول إلى جدار يصدّ النسيم الجديد يصبح عبئاً على المعنى. والمأساة الكبرى تبدأ حين تُرفع الشعارات ولا تفتح طريقاً بقدر ما تغلقه، حين يتحول الهتاف من جسرٍ نحو الفعل إلى سقفٍ يغطي الفراغ ويزخرف العجز.

هنا تتبدل الكلمات من صوتٍ يحفّز الحركة إلى صوتٍ يطمئن الضمير. يصبح الشعار بديلاً من المشروع، ويصبح الهتاف انتصاراً بحد ذاته بدل أن يكون مقدمةً لنصرٍ فعلي. وحين تتغذى الشعوب على الرموز وحدها، يصبح الخيال وطنياً أكثر من الواقع، ويصبح الحديث عن الوطن بديلاً من بنائه.

قد يصبح الشعار بديلاً من المشروع، ويصبح الهتاف انتصاراً بحد ذاته بدل أن يكون مقدمةً لنصر فعلي. فحين تتغذى الشعوب على الرموز وحدها، يصبح الخيال وطنياً أكثر من الواقع، ويصبح الحديث عن الوطن بديلاً من بنائه

لقد كان الشعار في بدايات الثورة طاقةً روحية تصنع الإيمان بوجود شعب لم تكن له مؤسسات ولا سيادة. لكنه اليوم، حين يُرفع بالصياغة عينها رغم تغيّر شروط العالم، يصبح عكازاً تنظيمياً يسند شرعية متهالكة بدل أن يفتح أفقاً جديداً. وما أخطر المرحلة التي يصبح فيها الخطاب أكبر من الفعل، والصوت أعلى من القدرة، والمجد بماضيه أقوى من المستقبل! في هذه اللحظة لا يموت المشروع فقط، بل تتكلّس الذاكرة، ويصبح الماضي سجناً للمستقبل بدل أن يكون جذوره.

وحين يعلوها الغبار

إن الشعارات حين تأخذ مكان الوطن لا تكون خيانةً واعية بالضرورة، بل تكون نتيجة خوف؛ خوف الفاعلين من الاعتراف بأن الزمن تجاوز الأدوات، وخوف الجماهير من مواجهة مسؤوليات بناء ما بعد الثورة، وخوف القيادات من سقوط السرديات التي بنت عليها سلطتها.

ولذلك تُستعاد الشعارات نفسها في كل خطبة، كأن الثورة لا تتقدم خطوةً واحدة في الزمن، وكأن الشعب طفل أبدي يحتاج إلى التهييج قبل كل قرار، وكأن الوجدان لا يعيش إلا إذا كانت الكلمات أكبر من الواقع. بهذا يتحول الهتاف إلى مسكّن، لا إلى شرارة، وتتحول الجملة إلى جدارٍ يمنع التفكير. ومن لا يملك مشروعاً للحياة يكتفي بمسرحٍ للموت، ومن لا يملك خطةً للغد يصنع روايةً أكثر صخباً للماضي.

حين تسأل الجماهير عن الكهرباء والتعليم والصحة والاقتصاد، يقال لها إنّ هذه أسئلة تنتمي إلى زمنٍ لم يحن بعد، وإن الشرعية ما زالت معلّقة في ميادين القتال.

إن الشعارات تصبح وطناً بديلاً حين تمنح الانتماء أكثر مما تمنح الفعل. حين يكون الانحياز إلى صوت الفصيل أقوى من الانحياز إلى مصلحة الشعب. حين يُقاس الإخلاص بمدى ارتفاع الصوت بديلاً من صلابة البناء. حين يُستدعى الماضي في كل سجال بوصفه حقاً في الوجود، بدل أن يكون درساً يُعيد توجيه الخطوات. وحين يصبح الانتماء للفكرة أشد حضوراً من الانتماء للإنسان، تصبح الكلمات كأنها شعب منفصل عن شعب، وتغدو القصائد أكثر وطنيةً من المدن.

ما يزيد الصورة تعقيداً أنّ الشعارات لا تُستخدم فقط في مواجهة الآخر، أصبحت تُستخدم في مواجهة الداخل؛ تُرفع كي تُكمّم النقد، ويُستحضر الدم كي يُلغى السؤال، وتُستدعى رموز الشهادة كي تحمي سلطة الأمر الواقع من محاسبة شعبها. يصبح الماضي سيفاً وليس مرآة، ويصبح التاريخ وثيقة ملكية وليس ميراث مسؤولية.

هل تحتاج كل أمة إلى "شعاراتها"؟

وحين تسأل الجماهير عن الكهرباء والتعليم والصحة والاقتصاد، يقال لها إنّ هذه أسئلة تنتمي إلى زمنٍ لم يحن بعد، وإن الشرعية ما زالت معلّقة في ميادين القتال. لكن الحياة، بطبيعتها، لا تنتظر الشعار كي تنمو، ولا تؤجل حاجاتها إلى أن تُبْتكر بطولة جديدة. ومن يحوّل الشعب إلى وقودٍ دائم للاستعارة يفقد القدرة على رعاية هذا الشعب حين تتوقف المعركة أو حين يتغيّر شكلها.

وليس في الأمر رفضٌ للرمز أو للشعار، فالأمم لا تعيش ببرودة الإدارات وحدها، الأمم تحتاج إلى حرارة الإيمان والذاكرة والأسطورة. لكن الخلل يحدث حين تتقدّم الأسطورة على الواقع وتبتلعه، حين تتحول إلى الأصل بدل الفرع، وحين يصبح الخطاب هو الذي يحدد الحقيقة وليس العكس.

هنا تتحول الشعارات إلى دينٍ سياسي يفرض الطاعة قبل التفكير، ويقيس الولاء بمعركة الكلام بديلاً من معركة الإصلاح. وهكذا تنقلب اللغة من وسيلة تحرير الوعي إلى وسيلة تقييده، وتتحول الحماسة إلى سجنٍ لطاقاتٍ كان يمكن أن تبني مدارس ومستشفيات وأنظمة بيانات ومشاريع حياة، بدل أن تظل رهينة صدى في فراغ الساحات.

وقد شهد التاريخ الحديث أمثلةً كثيرة لشعوبٍ رفعت شعارات عظيمة أنهكتها حتى صارت الأجيال الجديدة تسمع العبارات نفسها من دون أن تعرف سبب إطلاقها. في الاتحاد السوفييتي كانت الأيديولوجيا أعلى من الخبز حتى انهارت، وفي بعض التجارب العربية كانت الشعارات أقوى من الدولة حتى تفكك المجتمع، وفي إيران ظلت الثورة حاضرة في الخطاب حتى نافست الدولة على سلطتها.

هنا تتحول الشعارات إلى دينٍ سياسي يفرض الطاعة قبل التفكير، ويقيس الولاء بمعركة الكلام بديلاً من معركة الإصلاح. وهكذا تنقلب اللغة من وسيلة تحرير الوعي إلى وسيلة تقييده، وتتحول الحماسة إلى سجنٍ للطاقات

وفي فلسطين، حيث الجرح أعمق والرمز أعلى، يصبح خطر هذا الانزلاق مضاعفاً؛ لأن الشعب لا يملك ترف الانفصال بين الذاكرة والمصير، ولا يملك ترف التحطم أمام غزارة الخطابات. وحيث يكون الشعار مقدساً، فإن القداسة لا تعفيه من التجدد. والدم الذي كتبه لا يعفيه من أن يمنح الحياة شكلاً جديداً.

وفي النهاية، لا نخشى من الشعارات لأنها عالية، بل نخشى منها حين تكون هي كل ما تبقى. لا نخشى من الذاكرة لأنها مؤلمة، بل نخشى منها حين تمنع الشفاء. لا نخشى من الرمز لأنه مقدس، بل نخشى منه حين يختطف المعنى. وحين تتحرر الشعارات من وظيفتها كبديل للوطن، يستعيد الوطن مساحته في الناس، ويستعيد الناس حقّهم في أن يعيشوا ثورتهم في العمل والإبداع والبناء، وليس في خطابات لا تنتهي.




رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image