هل حقاً

هل حقاً "لو بنعمل فيلم عن رسول كان أسهل"؟… عن جدليات "الست"

ثقافة نحن والتنوّع

الاثنين 15 ديسمبر 20259 دقائق للقراءة

ربما أكثر ما يعبر عن الجدل المُثار حول فيلم "الست" هو ما قاله مؤلفه أحمد مراد: لو بنعمل فيلم عن رسول هيبقى أسهل من الكلام عن أم كلثوم!

بمجرد خروج إعلان الفيلم للنور، وظهور بطلته منى زكي على الشاشة، والحالمون بعملٍ هام عن المطربة العربية الأشهر بدأوا يتحسسون مسدساتهم: هذه ليست أم كلثوم التي نريد!

يوم التاسع من كانون الأول/ديسمبر الجاري حانت اللحظة الحاسمة، وعُرِضَ الفيلم لأول مرة بالرياض، ثم سُرِّبت بعض المشاهد، فنال الفيلم وصناعه قسطاً من السخرية، وهو ما جعلَ البعض يعتبر الأمر أشبه بحملة مُمَنهجة ضد بطلة الفيلم منى زكي، وزوجها أحمد حلمي، على خلفية فيلمها المثير للجدل "أصحاب ولا أعز".

"الست" أخيراً في مصر

بعد يومين من عرضه في الرياض، استقبلت دور العرض السينمائي بمصر فيلم "الست" أخيراً، وآن للمشاهدين تقييمه بشكل أكثر دِقّة.

ثلاث ساعات إلا ربع تقريباً كانت مدة عرض الفيلم على الشاشة، وهي مدة مهما بلغت في الطول، فلن تُسعِف أي صانع لعرضٍ وافٍ لشخصية عاشت على القمة أكثر من نصف قرن، مرت خلالها بمراحل سياسية واجتماعية وشخصية لا حصر لها، فكان الحل الأمثل: التقاط من تلك الرحلة ما يخدم الزاوية والفكرة اللتين يريد صناع العمل عرضهما للجمهور.


الجدل حول "الست" لا يدور فقط حول أداء أو شكل، بل حول صدام بين صورة مقدّسة ترسّخت في الوجدان، ورغبة سينمائية في نزع الهالة وكشف الإنسانة خلف الأسطورة

بصرياً لم يُنكر أحد قوة الفيلم من تلك الناحية، فالبذخ الإنتاجي حقق صورةً لافتة على كل الأصعدة المرئية، سواءً في الديكور أو في تصميم الملابس وكذلك الصوت والمونتاج، وهي سِمة تميز أعمال المخرج مروان حامد.

لكن تظل الأزمة المُختَلَف عليها هي النص: أيُّ أم كلثوم نريد؟ هل "ثوما" الساكنة في وجدان مستمعيها بصورة أقرب إلى القداسة؟ أم "الست" التي في خاطر أحمد مراد ومروان حامد؟

عن ذلك الإشكال، يقول الناقد محمود عبد الشكور: "أثناء المشاهدة، هناك فيلمان يعملان فى نفس الوقت: فيلم على الشاشة، وآخر فى عقل كل مشاهد، مُكّوَّن من توقعاته وما ينتظره من العمل، مُضاف إليه درجة تركيزه بل وحالته النفسية والبدنية، وما يدور في رأسه من أفكار، من أول ملح الفيشار الذي يأكله، وصولاً إلى وسيلة المواصلات التي ستعيده إلى منزله".

ويضيف عبد الشكور في حديثه لرصيف22: "كلما أحكمتَ سيطرتَك على الفيلم الذي يدور في ذهنك ستركز أفضل، وستشاهد الفيلم الجاري على الشاشة بطريقة صحيحة".

التقاط "عبد الشكور" لتلك الزاوية هي لُبّ الخلاف حول فيلم "الست"، فأكثر ملاحظة ستطرأ على ذهن أي مشاهد للفيلم، هي كيف لعملٍ يتناول مسيرة أم كلثوم لا نرى فيه أسماءً لامعة في مسيرتها الفنية، مثل رياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب وبليغ حمدي، وثلاثتهم يمثلون نقلات هامة في مسيرة "كوكب الشرق"؟

يُجيب عن هذا السؤال الناقد الفني أمجد جمال بقوله: "الفيلم لا يهتم بالشراكات الفنية، بل بالحالة الإنسانية. إنه يعرض أم كلثوم ككيان مستقل يقاوم من أجل النجاة قبل المجد، يقاوم العائلة، والمجتمع، والصحافة، والسلطة، والرجال. والمشهد الوحيد الذي يظهر فيه اسم محمد عبد الوهاب، كان باعتباره خصماً لأم كلثوم بانتخابات نقابة الموسيقيين، أي ليس صراعاً ولا شراكة فنية، بل ظلال كفاح نسائي لمقاسمة الرجال على السلطة".

ويضيف أمجد لرصيف22: "الست هو العنوان الذي في ظاهره التبجيل المعتاد لكوكب الشرق، لكن في باطنه قراءة أنثوية لشخصية أم كلثوم، ليس بالمعنى النسوي الأيديولوجي المتعصب، بل بالمعنى الأشمل: ماذا يعني أن تكوني امرأة في مجتمع يقمع الأنثى بداخلك في كل لحظة؟".

"الست" بين منى زكي وصابرين... الجميع غاضبون!

قبل ربع قرنٍ من الآن، كان صناع مسلسل "أم كلثوم" الذي أدت بطولته صابرين وأخرجته إنعام محمد علي، يصورون الأحداث في ستوديو "نحاس" بمنطقة الهرم في مصر، في الوقت نفسه كانت أسرة المطربة الراحلة أسمهان، قد أرسلت برقيات عاجلة إلى الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك تطالبه فيها بوقف تصوير المسلسل أو حذف شخصية المطربة السورية من العمل.

بالفعل، رضخت الحكومة المصرية آنذاك لمطالب أسرة أسمهان، ووجه صفوت الشريف، وزير الإعلام آنذاك، كاتب المسلسل السيناريست محفوظ عبد الرحمن بحذف الشخصية من العمل تماماً، فخسرنا رؤية الفنانة مادلين طبر التي كانت مرشحة لتجسيد الشخصية، وقالت وقتها: "ليس لدي حيلة في ذلك"!

وكما انتقد مشاهدو فيلم "الست" عدم ظهور شخصيات هامة في مسيرتها التلحينية، تعرض مسلسل "أم كلثوم" للأمر ذاته، لدرجة أن أسرة الملحن الراحل محمد الموجي هددت باللجوء للقضاء لأن شخصيته ـ وفقاً لتعبيرهم ـ "سقطت سهواً من المسلسل"، وقالت زوجته: "إن إهمال شخصية الموجي من المسلسل يٌعد تزييفاً للتاريخ".

وقتها رد السيناريست محفوظ عبد الرحمن على تلك التهديدات والانتقادات بقوله: "كان من واجبي أن أختار من بين الشخصيات التي تعاملتْ مع أم كلثوم (...) وهناك شخصيات أخرى كانت على علاقة مع كوكب الشرق، ومع ذلك لم تظهر في المسلسل، لأنني لم أجد لهم حكايات معها، مثل كمال الطويل، وعبد الفتاح مصطفى، وعبد الوهاب محمد، وصلاح جاهين".

صراع القداسة ضد الأنسنة

في الرابع من شباط/فبراير عام 2000، نشر الأديب الأردني من أصل فلسطيني رسمي أبو علي، مقالاً عنوانه "مسلسل أم كلثوم صورها كأنها كانت حاكمة لمصر"، قال فيه: "نسجل على المسلسل أو بالأحرى على الكاتب أنه قام بعملية (تعقيم) كاملة لحياة أم كلثوم، إذ حرص على إظهارها دائما بمظهر مثالي لا تشوبه شائبة. أم كلثوم كانت سيدة عظيمة دون شك، لكن في حياة العظماء نقاط ضعف تجنَّبَ الكاتب إبرازها إلا في لمسات قليلة، إحداها عندما (استحلّت) أغنية (سهران لوحدي) التي كان أحمد رامي قد كتبها لعبد الوهاب، فأخذتها من رامي وغنتها بعد ذلك، مُسبِّبَة أعظم الغيط لعبد الوهاب".

ويضيف أبو علي أن المسلسل عرضَ "قصة نجاح مذهلة لتلك الفلاحة البسيطة التي كانت ترتدي الكوفية والعقال وتكتفي بالأناشيد والمدائح الدينية، وكيف تطورت وتقدمت بعد أن ثقّفت نفسها وتعلمت الفرنسية والإنجليزية بجهود ذاتية، ولعل أهم عناصر نجاح أم كلثوم هو إخلاصها التام لفنها ووضعه دائما في المقام الأول حتى قبل مشاعرها أو عواطفها كإنسانة".

الفيلم لا يلاحق إنجازات أم كلثوم بقدر ما يحاكم شروط كونها امرأة في زمن قاسٍ؛ رحلة نجاة طويلة من سلطة العائلة والمجتمع والمدينة، قبل أن تكون رحلة مجد فني

هاتان النقطتان اللتان كتبهما أبو علي قبل ربع قرنٍ عن مسلسل "أم كلثوم" سنجد عكسهما تماماً في فيلم "الست"، فيقول الناقد أمجد جمال: "على خلاف معظم الأعمال التي تناولت أم كلثوم سابقاً، يتخلى الفيلم عن فكرة تتبع المسار المهني أو الفني أو الإنجازي، فكل التركيز في فيلم أحمد مراد كان على الإنسانة الكامنة خلف الأسطورة: من هي هذه المرأة؟ وماذا أرادت لحياتها؟ هل كانت أنوثتها مكتملة أم مقموعة؟ هل كانت سعيدة أم لا؟"

ويستطرد أمجد رداً على النقطة الخاصة برحلة كفاح أم كلثوم الفلاحة بنت الريف: "الفيلم لا يجمّل هذه المرحلة، ولا ينظر لها كمحطة كفاح لبناء المجد كما فعلت الأعمال القديمة، بل يدينها ضمنياً بمعايير قيمية مُستحدثة، حيث نرى طفلة تُنتزع من طفولتها لتصبح مشروعاً ذكورياً للربح. وعندما تنتقل للقاهرة، لا تختفي الذكورية، بل تتبدل. المدينة أكثر تحضراً على السطح، لكن السيطرة الذكورية تتخذ أشكالاً أكثر أناقة"َ!

حسنة خفية وراء فيلم "الست" ومسلسل "أم كلثوم"

توفيت "كوكب الشرق" قبل أكثر من خمسين عاماً (3 شباط/فبراير 1975)، وظهر بعدها مطربون ومطربات، وتغيرت ذائقة الجمهور، لكن رغم ذلك، ظلت أغنيات أم كلثوم صامدة على مر العصور، وهو ما لا ينكره أحد، وتعضده الأرقام، ربما هذا ما ارتكن إليه صناع مسلسل "أم كلثوم" قبل ربع قرن، وصناع فيلم "الست" قبل أيام.

يوم 24 كانون الثاني/يناير عام 2000، نشرت جريدة "الوفد" تقريراً ذكرت فيه أنّ مسلسل "أم كلثوم" جعلَ أغانيها الأكثر رواجاً، كمان أن المسلسل استقطبَ جيلا جديداً من "السميعة".

تقول "الوفد" في تقريرها: "جاء مسلسل أم كلثوم لكي يزيد أعباء المطربين الشبان، بعد أن فتح خطا ساخنا بين أعمال سيد الغناء العربي وبين جيل جديد من عشاق الغناء، وهو جيل ما دون الـ20 عاماً ممن لم يعاصروا السيدة أم كلثوم، وجاء الدليل في ارتفاع مبيعات أغانيها خلال فترة عرض المسلسل وما بعد عرضه إلى أرقام كبيرة، وهو ما جعل بعض شركات الإنتاج تؤجل طرح بعض الألبومات"!

ويضيف التقرير مندهشاً: "تأتي ارتفاع مبيعات أغاني أم كلثوم رغم أن الشركة المحتكرة لأعمالها وهي صوت القاهرة، لا تقوم بأي دعاية في حالة صدور أي طبعة جديدة لأغانيها، وتترك الأعمال تتحدث عن نفسها"!

أما عن فيلم "الست" فالناقد أمجد جمال يقول: "نجح المخرج مروان حامد في تقديم سيرة ذاتية مختلفة جذرياً عما يُقدَّم في الأعمال المصرية، يستهدف فيها الأجيال الجديدة من مرتادي السينما، أولئك الذين نشأوا على ثقافة منفتحة، ومنصات مشاهدة تعرض أعمالاً من كل العالم، فالفيلم يقدم سيرة أم كلثوم في قالب درامي ومرئي جذاب يستهوي هذا الجيل".

الفكرة ذاتها يؤكدها أحمد مراد كاتب فيلم "الست"، بتصريح له قال فيه إن الفيلم نجح في جذب اهتمام واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث وصل عدد المشاهدات للإعلان إلى 58 ألفاً، مع نسبة وصول تجاوزت 475 مليوناً -يقصد عند عرضه الأول-، وهو رقم غير مسبوق، مضيفاً أن "جيلنا يحتاج إلى ملهم جديد، ولادنا وبناتنا محتاجين يشوفوا نموذج مذهل".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

من 12 سنة لهلّق، ما سايرنا ولا سلطة، ولا سوق، ولا تراند.

نحنا منحازين… للناس، للحقيقة، وللتغيير.

وبظلّ كل الحاصل من حولنا، ما فينا نكمّل بلا شراكة واعية.


Website by WhiteBeard
Popup Image