العبور الجنسي في السينما المصرية… بين جرأة الماضي وصمت الحاضر

العبور الجنسي في السينما المصرية… بين جرأة الماضي وصمت الحاضر

حياة نحن والميم-عين

الخميس 20 نوفمبر 20259 دقائق للقراءة

في السياق العربي والمصري، تكتسب الكتابة عن العبور الجنسي في السينما أهمية مضاعفة؛ لأن هذا النوع من التمثيل نادر ومحمل بحساسيات ثقافية ودينية واجتماعية، فالمجتمع لا يزال يتعامل مع قضايا الهوية الجندرية بوصفها مناطق "محرمة" أو مثيرة للجدل، مما يجعل الفن مساحة محدودة يمكن من خلالها مناقشة هذه الموضوعات.

إن البحث في الأفلام التي تناولت العبور الجنسي لا يهدف فقط إلى تحليلها فنياً، بل يسعى أيضاً إلى كشف الطريقة التي تتعامل بها الثقافة مع المختلف والمهمش، وإلى فهم التحولات في النظرة إلى الجسد والهوية والحرية الشخصية، خصوصاً مقارنة بما كانت عليه هذه النظرة في الماضي، وما هي عليه في الوقت الحالي.

نشهد الآن لحظة مفصلية من الزمن، الذي يبدو كما لو أنه يمشي للخلف بدلاً من التقدم للأمام، فبينما قد نظن أننا نعيش في عالم الحداثة وتقبل الآخر، فإن الحقيقة أن الحدود الآن تصبح أقوى والجدران أعلى، بينما تنجح مساعي اليمين العالمي في زيادة تهميش كل آخر يبتعد عن المقبول والمتعارف عليه.

العبور الجنسي… بين الضحك والاحتجاج 

بدأ اهتمام السينما المصرية بفكرة العبور الجندري مبكراً، مع فيلم "الآنسة حنفي" (1954) للمخرج فطين عبد الوهاب، المقتبس من قصة حقيقية لفتاة من الدقهلية تُدعى فاطمة إبراهيم داوود، خضعت في الأربعينيات لعملية عبور جنسي.

بعد العملية الجراحية التصحيحية، تختبر "فيفي" حياة النساء وما يواجهنه من قيود اجتماعية وضغوط أسرية. رغم أن الفيلم جاء في إطار كوميدي، فإنه استخدم العبور كوسيلة لطرح تساؤلات حول الأدوار الجندرية والمكانة الاجتماعية للمرأة.

بدأ اهتمام السينما المصرية بفكرة العبور الجندري مبكراً، مع فيلم "الآنسة حنفي" (1954) للمخرج فطين عبد الوهاب، المقتبس من قصة حقيقية لفتاة من الدقهلية تُدعى فاطمة إبراهيم داوود، خضعت في الأربعينيات لعملية عبور جنسي

بعدها بأربع سنوات، قدم إسماعيل يس المعالجة العكسية في فيلم "الست نواعم" (1958) للمخرج يوسف معلوف، حيث يخضع "زكي" لعملية تأكيد الجنس. يوظف الفيلم العبور في حبكة كوميدية قائمة على الخداع العاطفي والزواج الصوري، لكنه يفتح أيضاً باباً للنقاش حول العلاقات الجندرية والسلطة الذكورية، وكيف يُعيد المجتمع تعريف هوية الفرد بناءً على مظهره الجسدي لا جوهره الإنساني.

أما فيلم "السادة الرجال" (1987) للمخرج رأفت الميهي فانتقل بالفكرة إلى مستوى آخر، إذ تدور قصته حول "فوزية" (معالي زايد)، وهي امرأة تنهكها مسؤوليات العمل والمنزل، وتُحرم من التقدير والمساواة، فتقرر العبور إلى رجل لتجبر المجتمع على احترامها. هنا يتحول العبور إلى صرخة احتجاج اجتماعي ضد التمييز الجندري وعدم المساواة.

من خلال هذه الأفلام الثلاثة، يمكن تتبع تطور تناول السينما المصرية للعبور الجندري: من معالجة خفيفة إلى طرح فكري يواجه قضايا السلطة والهوية. ورغم ما شاب تلك الأعمال من مبالغات علمية أو درامية، فإنها شكلت محاولات مبكرة لتسليط الضوء على علاقة الجندر بالمجتمع.

تُظهر هذه الأفلام كذلك التناقض بين خطاب البداية وخطاب النهاية، حيث تبدأ الأفلام بخطاب تقدمي يعطي المرأة القوة والحرية، لكنها غالباً ما تنهي الحكاية بإعادة إنتاج نفس الأدوار الجندرية. فعلى سبيل المثال، تهرب "فيفي" من منزل والدها، متمردة على قراره بتزويجها من رجل لا تريده، وبالفعل تتزوج شخصاً آخر، غير أنها تعود في النهاية إلى ذات المنزل كما لو أنها لا تستطيع إكمال حياتها سوى بعد الحصول على موافقة والدها أو ممثل السلطة الأبوية في حياتها.

تأتي نهاية فيلم "السادة الرجال" لتقتل أي صرخة احتجاجية حاول الفيلم تقديمها على مدار قصته، فبينما تحاول "فوزية" الانتصار على القيم الذكورية، يؤكد الفيلم على أن طفل "فوزية" من زوجها "أحمد" يحتاج إلى أم بيولوجية.

وبالتالي، بالرغم من تطور الإنسان على مر السنين، لا تزال الأفكار التي تؤكد على أن رعاية الأطفال مهمة منوطة بالنساء منتشرة. 

هذا التناقض يعكس تخوفاً ثقافياً من كسر التقاليد. وبالتبعية، هناك تناقض واضح بين ما تطرحه الأفلام من تمرد وبين نهاياتها التي تعيد كل شيء إلى طبيعته السابقة.

نعم لفانتازيا تبادل الأدوار

بعد "السادة الرجال" ابتعد العبور الجنسي عن التناول لسنوات طويلة، لم نعد نشاهد أفلاماً تقدم عبوراً جنسياً حقيقياً، مثلما قدمت السينما المصرية من قبل في الخمسينيات والثمانينيات، غير أنه ظهرت أفلام قليلة تقدم فانتازيا تبادل الأدوار، بعضها على مستوى واسع، وأخرى على مستوى ضيق، وإن يغلب عليها في الحالتين الكوميديا الواضحة.

نجد ثلاثة أمثلة على هذا التبادل الفانتازي، أولها فيلم "بنات العم" (2012) من إخراج أحمد سمير فرج، الذي يقدم فكرة تبادل الجندر بطريقة كوميدية؛ حيث تدور أحداثه حول ثلاث فتيات يرثن قصراً، فيقررن بيعه، لكن تحدث اللعنة ويتحولن إلى رجال. هذا التحول هنا جاء لبُعد سحري/فانتازي يعتمد على لعنة تُغير الجسد والمظهر الخارجي، فتتعامل الشخصيات مع مفارقات أخلاقية واجتماعية جديدة.

غير أن صُناع الفيلم أوضحوا بصرامة أنهم لا يقدمون قصة عبور جنسي، كما يؤكد بطل الفيلم والمشارك في تأليفه الممثل "أحمد فهمي" في حوار صحفي، معتبراً أن التبدل في الأدوار الجندرية هو عنصر فانتازي.

يقدم فيلم "هاتولي راجل" (2013) لمحمد شاكر خضير تصوراً ساخراً لمجتمع خيالي تحكمه النساء ويتمتعن فيه بسلطات ذكورية، فيقلب الأدوار الجندرية التقليدية رأساً على عقب، إذ يعرض الفيلم ثلاث قصص متوازية توضح هذا العالم المقلوب: زوجان حديثان يواجهان مشكلة جنسية يحمل أعباءها الزوج، ضابطة شرطة قاسية الطباع على علاقة بممرض يعمل سراً في مجال الجنس، ومخرجة إعلانات تستغل شاباً خجولاً في أولى تجاربه العاطفية. من خلال هذه الثنائيات، يسخر العمل من القوالب النمطية للعلاقات بين الرجل والمرأة، ويقدم نقداً فكاهياً للأدوار الجندرية السائدة في المجتمع.

بينما نجد المثال الأحدث في فيلم "بابا وماما" (2025) إخراج أحمد القيعي، الذي يقدم فكرة تبادل الأجساد بين زوجين: الزوجة تستيقظ في جسد الزوج، والزوج يجد نفسه في جسد الزوجة. هذا التحول الجسدي المفاجئ يخلق سلسلة من المواقف الكوميدية والمفارقات التي تضع كلاً منهما في مواجهة تجارب الآخر وتحديات لم يكن يتخيلها من قبل، مثل التعامل مع المسؤوليات المنزلية أو التوقعات الاجتماعية المرتبطة بجندر معين.

في حديثها مع رصيف22، تتحدث الناقدة السينمائية رحمة الحداد عن غياب أفلام تتناول العبور الجنسي عن السينما المصرية، أو حتى أفلام تقدم ارتداء الملابس العكسية Cross Dressing: "في ما يخص مناقشة قضايا الجندر أو فكرة التنكر والعبور، فقد بدأت هذه الصيغة أو الـ trope نفسها تتلاشى تدريجياً. ربما كانت آخر مرة ظهرت فيها بوضوح في فيلم "رغدة متوحشة"، الذي لم يحقق نجاحاً يُذكر أو تأثيراً يُعتد به. وربما كانت من آخر المرات التي قُدِّمت فيها هذه الفكرة بنجاح ولها صدى شعبي واسع في فيلم "بنات العم".

وتضيف: "أعتقد أن تكرار الفكرة، وانعدام عنصر المفاجأة أو الجِدة في المعالجة، بالإضافة إلى الحساسيات المحلية تجاه المفاهيم الجندرية وتناول تنوع التفضيلات الجنسية، كلها عوامل أدت إلى اندثار هذا الشكل الفني تدريجياً مع مرور الوقت".

الجندر مفرغ من معناه

يُلاحظ في هذه الأمثلة السابقة كلها أن الجندر على الأغلب يُقدَّم كمصدر للضحك، حيث تتعامل السينما المصرية مع العبور الجنسي أو الجندري في كثير من الأحوال من منظور كوميدي، وهو ما يؤدي إلى تهميش العمق النفسي والاجتماعي للعبور، إذ يُستخدم كمفارقة طريفة وليس كقضية إنسانية، وبالتالي تستخدم الأفلام "الكوميديا" لتقليل حساسية الموضوع وتفريغه من أبعاده الحقوقية.

يمكن تفسير الغياب الحالي للأفلام المصرية التي تتناول النوع الاجتماعي والعبور الجنسي على وجه الخصوص بمجموعة من التحولات الاجتماعية والرقابية والثقافية التي حدثت خلال العقود الأخيرة. 

فعلى المستوى الاجتماعي، تزايدت الحساسية تجاه مفاهيم الجندر والهوية الجنسية، وأصبح الحديث عنها يُنظر إليه باعتباره تجاوزاً للخطوط الأخلاقية أو الدينية، ما أدى إلى تراجع مساحة النقاش العام حول قضايا الهوية الفردية والاختلاف. 

كما رسخت الثقافة الشعبية أنماطاً تقليدية جامدة لمفهوم "الرجولة والأنوثة"، وجعلت أي محاولة لطرح موضوعات تمس هذه القوالب تُقابل بالرفض أو السخرية، بعدما كانت السينما في الخمسينيات والستينيات أكثر جرأة وانفتاحاً في تناولها لتلك القضايا.

يكشف تاريخ العبور الجنسي في السينما المصرية عن تراجع واضح في الجرأة الفنية والفكرية؛ فبعد أن كانت الكاميرا تطرح أسئلة عن الجسد والحرية والهوية الجنسية أو الجندرية، أصبحت تكتفي بالتهكم أو التجاهل

على المستوى الرقابي، فقد أدى تشدد الرقابة في القرن الحادي والعشرين إلى تضييق الخناق على الموضوعات التي تمس الجسد أو الهوية الجندرية، حيث تُصنَّف غالباً ضمن ما "يمس الآداب العامة"، كما أصبحت الرقابة الذاتية داخل الوسط الفني أكثر حضوراً، إذ يتجنب المبدعون والمنتجون طرح أي أفكار قد تُعرض أعمالهم للمنع أو الجدل، كما حدث العام الماضي مع فيلم "أحلى من الأرض"، للمخرج شريف البنداري، الذي مُنع من العرض في مصر، بينما حصل على جائزة من مهرجان قرطاج السينمائي لتناوله أزمة فتاة مثلية.

أما على الصعيد الثقافي والإنتاجي، فقد هيمنت الكوميديا التجارية والأفلام الآمنة على السوق، وتراجع الخطاب النقدي والاجتماعي الذي كان يميّز السينما المصرية في فتراتها الذهبية، كما تغيرت أولويات الجمهور الذي بات يبحث عن الترفيه أكثر من التحدي الفكري، مما جعل تناول موضوعات العبور الجنسي أو تبادل الأدوار الاجتماعية مخاطرة لا يراها المنتجون مجدية.

في المحصلة، يكشف تاريخ العبور الجنسي في السينما المصرية عن تراجع واضح في الجرأة الفنية والفكرية؛ فبعد أن كانت الكاميرا تطرح أسئلة عن الجسد والحرية والهوية الجنسية أو الجندرية، أصبحت تكتفي بالتهكم أو التجاهل. 

من الكوميديا الساخرة إلى الصمت الكامل، انتقلت هذه القضية من الشاشة إلى الهامش، وربما يكون التحدي الآن هو استعادة شجاعة الماضي، لا لتكرارها، بل لتجديدها في ضوء واقع أكثر وعياً وتقبلاً للهويات الجنسية والجندرية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image