أجساد بلا أقنعة... النوادي الرياضية كغرفٍ سرّية للنجاة

أجساد بلا أقنعة... النوادي الرياضية كغرفٍ سرّية للنجاة

مدونة نحن والحرية

الأربعاء 17 ديسمبر 20256 دقائق للقراءة

أُكرّر في ذهني مقطعاً من أغنية المغنية الأسترالية سيا Unstoppable I'M، وأنا جالسة على جهاز تمرين الساقين في النادي الرياضي، أدفع بقدمي أكثر من ستةٍ وثمانين كيلوغراماً من الحديد. لا يمكن إيقافي.

أدندن الكلمات، وأتساءل في نفسي مقارنةً: كيف يمكن للمرء أن يرفع كلّ هذه الأثقال من الحديد، ويعجز قلبه عن تحمّل غرام واحد من الشوق أو الحنين؟ هل الشوق أثقل من الحديد بالنسبة إلى الجسد البشري؟ تواصل المغنية: سأرتدي الدرع وأريكِ كم أنا قوية. أفكّر بكلمات الأغنية وأدرك أنها لا تُشبهني. هي مناسبة كأغنية تحفيز للصالات الرياضية، أمّا مشكلتي في الحياة فتكمن في أنّني لم أقبل يوماً أن أرتدي دروعاً في مواجهة الحياة، الحب، البشر والصداقة.

قابلتُ كلّ شيء وعشته بجسدٍ عارٍ، وقلبٍ ساخن، ودموعٍ سخية.

جروح وندوب

كنتُ أعرف، مذ كنتُ صغيرة، أن ارتداء الدروع يحمينا من الصدمات التي تلي التجربة، لكن ما معنى الحياة من دون أن يلمس الذين نحبّهم أعماقنا؟ من دون أن نلامس أعماق مخاوفهم، حتى وإن كانت النتيجة هي تلك الجروح والندوب التي تحفر عميقاً في وعينا، وهويتنا، وذكرياتنا؟

شارك خبيرٌ رياضيّ أتابعه في إنستغرام أنّ ممارسة تمارين الحديد بانتظام تساهم في التعافي من اضطرابات ما بعد الصدمة لأنها تساعد في بناء خلايا جديدة في الدماغ.

كيف يمكن للمرء أن يرفع كلّ هذه الأثقال من الحديد، ويعجز قلبه عن تحمّل غرام واحد من الشوق أو الحنين؟ هل الشوق أثقل من الحديد بالنسبة إلى الجسد البشري؟

أفكّر في الأسباب التي تدفع كلّ هؤلاء الأشخاص الذين أتقاسم معهم هذه المساحة إلى المجيء إلى النادي الرياضي.

هل ينتظرون، مثلي، أن تنمو خلايا دماغية جديدة في أدمغتهم مكان تلك التي تلِفَت بسبب الرضوض، الندوب، الجراح القديمة والصدمات؟

هل يشعرون في هذا المكان بالحرية وبأنهم داخل عالم أجسادهم الحميمية حيث لا يمكن لأحد أو شيء أن يزعجهم؟

أم إنهم هنا بحثاً عن الشكل المثالي للجسد، ذلك الشكل الذي تروّج له الإعلانات ووسائل التواصل؟

لكن هل يوجد حقاً شكلٌ مثاليّ للجسد، أم أن كلّ جسدٍ يصبح الجسد المثالي حين نحب أجسادنا ونتعاطف معها ومع كلّ ما مرّت به؟ وربما، لأجل كلّ هذه الأسباب، وربما أيضاً من أجل التباهي بامتلاك جسدٍ رياضيّ تروّج له ماكينة الرأسمالية العالمية، هذه المرّة تحت بند الصحة واللياقة: شكل عضلاتٍ يضمن استمرار بيع منتجات النوادي الرياضية من بروتين وكرياتين، وثياب، وغيرها. تمتلئ هذه الصالات الرياضية بكلّ هؤلاء الباحثين والحالمين والمتتبّعين للموضة الرائجة. كل واحد لهدف وغاية.

لا سقف لقدراتنا

تعلّمني تمارين الحديد أنه لا سقف لقدراتنا، ففي كلّ مرة نعتقد أننا وصلنا إلى الحدّ الأقصى من تحمّل الألم، نكتشف أن لدينا المزيد من القوة، المزيد من الصبر، وأن علينا أن نرفع سقف توقعاتنا عن أنفسنا وقدراتنا. والطريقة الوحيدة لمعرفة ذلك هي الاستمرار. وهذا تماماً ما نفعله في الحياة: حين نُجرَح، نقرّر المواصلة دون النظر إلى الخلف ودون الشعور بالندم، رغم معرفتنا أن داخلنا طريّ، ناعم، هشّ، مثل بتلات شقائق النعمان الحمراء؛ أيّ ذكرى صغيرة تكفي لجرحه وإسقاطه أرضاً.

يدخل زائرٌ جديد كلّ بضع دقائق ويمكن ملاحظة تبدّل ملامح الداخلين بعد دقائق من بدء التمرين؛ كلّ شيء يتحوّل: طاقتهم، شكل أجسادهم، ملامحهم. يبدو أن كلّ واحدٍ منّا يدخل إلى غرفته السرّية الخاصة، الغرفة التي لا يمكن لأحدٍ من الخارج أن يزعجه فيها.

السماعات في الأذنين، صوت الموسيقى عالٍ، وتبدأ الأجساد في إنتاج طاقة لم يكن أصحابها يتخيّلون أنهم يمتلكونها. داخل النادي، أنت مع نفسك، مع جسدك، مع أفكارك. تطير إلى عوالم لم تكن تتخيّل وجودها ويحلق جسدك بقدراته إلى حدودٍ لم تكن تدرك أنك قادرٌ على تجاوزها. ما بدا قبل أسبوعٍ مستحيل التحقق مع الأوزان، يبدو بعد مرور أسبوعٍ ممكناً وقابلاً للتجاوز.

هذا ليس فقط تحدياً لجسدك؛ إنه تحدٍّ نفسي للحدود التي يمكننا تجاوزها، تلك الحدود التي ترفع رأسها في وجهنا في كلّ مكان، سواء كانت حدوداً جغرافية، اجتماعية، ثقافية أو نفسية.

في النادي الرياضي، تبدأ بكسر أول تلك الحدود مع قدرات جسدك التي لم تكن تعرف عنها شيئاً. جسدك الذي لم تعرفه جيداً، والذي، منذ ولادتك، هناك من يرسم لك الشكل الذي يجب أن يكون عليه والقدرات التي يجب أن يمتلكها وتلك التي لا يمكن له امتلاكها.

جسدك الذي تُحدّد وظيفته الأنظمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وبناها البطريركية السلطوية.
لكن هنا، في النوادي الرياضية، تتحرّر رويداً رويداً من تلك الأوهام والتصوّرات النمطيةعن هذا الدور.

يحلّق جسدك بقدراته، فتعتقد للحظة أنك الإله الذي خلق نفسه بنفسه؛ أنت وجسدك واحد. لا حدود ولا أصوات في الخلفية تُبعدك عن نداء الجسد، عن رغباته.

يغدو العالم كلّه مجرّد خلفية صامتة للموسيقى التي تدور في أذنك، وأنت هناك تتمرّن وتتمرّن. وكلّما تخطّيت مستوى، شعرت برغبةٍ في تجاوز حاجزٍ جديد.

داخل النوادي الرياضي، أجسادٌ مختلفة: أجسادٌ رشيقة وأخرى بوزنٍ زائد، أجسادٌ بدهونٍ وسيلوليت وأخرى لامعة كأنها خارجة لتوّها من مهرجان. ولا شيء يجمعهم داخل صالة الرياضة سوى الجسد، المعبد الأول للإنسان؛ المعبد والبيت الذي لا ينبغي إهماله أو هدمه، لأنه سيكون آخر بيتٍ يلجأ إليه الإنسان حين تتخلى عنه كلّ البيوت التي بناها.

من الواجهة الزجاجية العريضة، أطلّ على الطابق الثالث من مكتبة "هوغندوبل" الألمانية، حيث يوجد مقهى صغير وركنٌ للقراءة.

تركض الكلمات داخل رأسي، تسبق جهاز المشي وخطواتي، تبحث عن حيواتٍ تعيش داخلها، عن بيوتٍ تؤسّسها، عن قرّاءٍ يمسحون دموعها.

أخرج من النادي لأدخل المكتبة، لأدوّن الحيوات التي كانت تركض كخيولٍ برّية داخل رأسي. هناك كتبتُ القسم الأكبر من نصوص كتابي متحف الرغبة.

هناك تخيّلتُ لنفسي، كما للآخرين، حيواتٍ موازية، حيواتٍ لطالما رغبتُ فيها.

ما معنى الحياة من دون أن يلمس الذين نحبّهم أعماقنا؟ من دون أن نلامس أعماق مخاوفهم، حتى وإن كانت النتيجة هي تلك الجروح والندوب التي تحفر عميقاً في وعينا، وهويتنا، وذكرياتنا؟

في النادي الرياضي، كلّ شخصٍ مشغولٌ بالاستماع إلى نداء جسده. نادراً ما ترى أحدًا مهتمّاً بما يحدث خارج حدوده ومساحته.

يقول صديقٌ لي إن البشر في النوادي الرياضية يشبهون الزومبي: "لا أحد يرى الآخر؛ السماعات في الأذنين، الموسيقى عالية، والجميع يتبع إيقاع موسيقاه الخاصة، إيقاع جسده".

الأنفاس تتسارع، تصعد وتهبط، ويُصغي المرء أخيراً، وسط ضجيج العالم، إلى صوت جسده، بيته الأول والأخير.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منذ 12 سنةً، مشينا سوا.

كنّا منبر لناس صوتها ما كان يوصل،

وكنتم أنتم جزء من هالمعركة، من هالصوت.

اليوم، الطريق أصعب من أي وقت.

وصرنا بحاجة إلكن.

Website by WhiteBeard
Popup Image