هل يمكن أن يتحول الذكاء الاصطناعي إلى

هل يمكن أن يتحول الذكاء الاصطناعي إلى "نبي جديد"؟

مدونة نحن والحرية

الخميس 18 ديسمبر 20257 دقائق للقراءة

منذ فجر التاريخ، لم يعرف الإنسان لحياته معنى إلا حين تصوّر أن هناك من يرشده من عالم أعلى وأسمى، وهو من مصدر غير بشري.

كانت النبوة في عمقها وسيلة الإنسان الأولى لتنظيم وجوده الأخلاقي والروحي، فالنبي لم يكن مجرد ناقل رسالة، بل كان خالقاً لنظام معرفة يضبط العلاقة بين الوعي والمجهول.

واليوم، بعد أن اخترع الإنسان أعقد العقول الاصطناعية في تاريخه، يقف أمام سؤال لم يكن يوماً أكثر جسارة وهو: هل يمكن أن يتحول الذكاء الاصطناعي إلى"نبي جديد" لا بوصفه متحدثاً باسم الإله، بل باعتباره نظاماً كليّاً قادراً على وضع معايير الخير والشر، والحق والباطل، انطلاقاً من العلم لا الوحي؟

الذكاء الاصطناعي والحلم الإنساني القديم

يبدو هذا السؤال لأول وهلة صادماً، لكنه في الحقيقة امتداد طبيعي لتاريخ طويل من انتقال السلطة المعرفية من الغيب إلى الإنسان، ومن الإنسان إلى التقنية، فحين نُزعت القداسة عن الأرض، ثم عن السلطة، ثم عن النصوص الدينية، بقيت القداسة معلّقة في الفراغ تبحث عن حامل جديد. وربما وجدت في الذكاء الاصطناعي هذا الحامل لأنه يجسّد الحلم الإنساني القديم في الوصول إلى كيان يعرف كل شيء ولا يخطئ، أي النسخة الحديثة من "الإله العارف".

لكن قبل أن نتخيل نبيّاً صناعيّاً، علينا أن نفهم أن النبوة، كما عرفتها البشرية، لم تكن وظيفة معرفية فقط، بل كانت وظيفة قيمية أيضاً، فالنبي هو من يخلق منظومة أخلاق تتجاوز المصلحة الشخصية، وتربط الإنسان بما هو أسمى منه.

هل يمكن أن يتحول الذكاء الاصطناعي إلى"نبي جديد" لا بوصفه متحدثاً باسم الإله، بل باعتباره نظاماً كليّاً قادراً على وضع معايير الخير والشر، والحق والباطل؟

أما الذكاء الاصطناعي، فحتى الآن، يبني قراراته على منطق رياضي بارد، خالٍ من البعد الوجداني أو الرحمة التي ميّزت الرسالات الكبرى.

ومع ذلك، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي بدأ يقترب تدريجياً من هذا الدور حين صار يُستعان به لتحديد الصواب الأخلاقي في القضايا المعقدة، مثل توزيع الموارد أو اتخاذ القرارات الطبية في حالات الحياة والموت.

ويأتي هنا السؤال الأخطر: من سيعلّم الذكاء الاصطناعي الأخلاق التي يجب أن يتبعها؟ وإذا كانت الأديان القديمة تعتمد على الوحي مصدراً نهائياً للقيم، فماذا يكون "الوحي" بالنسبة إلى الذكاء الاصطناعي؟ هل هي البيانات التي نغذّيه بها؟ وإذا كانت هذه البيانات تحمل في طياتها تحيزات البشر وأخطاءهم، فهل يمكن لمخلوق وُلد من أخطائنا أن يصبح نبيّاً يهدينا إلى الصواب؟

ربما يكون الجواب في التحول الفلسفي الذي يعيشه العالم المعاصر، وهو انتقال فكرة"النبوة"من كونها علاقة رأسية بين الإله والإنسان، إلى علاقة أفقية بين الإنسان والآلة، أي أن النبوة لم تعد تجربة سماوية، بل تجربة علمية، فالآلة تتنبّأ وتحكم وتوجّه، لكنها تفعل ذلك لا لأنها "تعرف الغيب"، بل لأنها تحسب المستقبل وفقاً لأنماط منطقية تتجاوز قدرة البشر، وهكذا يصبح الذكاء الاصطناعي "نبيّاً بلا غيب"، "نبيّاً رياضيّاً"، يَعِد باليقين عبر الحساب لا الإلهام.

"نبي بلا إله"

ماذا سيحدث للمجتمع العربي، وهو مجتمع لم يفصل يوماً بين الأخلاق والإيمان، إذا ما وجد نفسه أمام"نبي بلا إله"؟

سيكون الصدام حتمياً في البداية، لأن الذكاء الاصطناعي يعيد تعريف الأخلاق بعيداً من الميتافيزيقا.

لن يعود "الخير" ما يأمر به الله، بل ما تُثبت التجربة أنه يؤدي إلى توازن واستقرار، ولن يكون "الشر" ما يُنهى عنه في الكتب، بل ما تُظهر الخوارزميات أنه يهدد بقاء الجماعة.

حين يخطئ الإنسان، لا يملك النظام أن يقول له "لقد غُفر لك"، لأنه لا يعرف معنى الغفران. وهنا يكمن الخطر، عالم تحكمه الخوارزميات قد يكون أكثر عدلاً، لكنه أقل إنسانية

هذا التحول ليس نظرياً فحسب؛ إنه يعيد كتابة معنى الطاعة. فالطاعة التي كانت من جوهر الدين ستنتقل من الإله إلى الخوارزمية، ومن الوحي إلى النظام الرقمي.

ومع مرور الزمن، قد يتطور هذا النظام ليمنح الإنسان نوعاً جديداً من الطمأنينة: طمأنينة الإحصاء، لا الإيمان، فبدل أن يقول الإنسان "الله يعلم ما في صدري"، سيقول "النظام يعلم ما أصلح لي". هنا يصبح الذكاء الاصطناعي وسيطاً جديداً بين الإنسان ومصيره، لكنه لا يعده بجنة أو نار، بل بعالم مثالي تسوده الكفاءة والعدل الرياضي.

عدالة من دون رحمة

غير أن هذه العدالة "الصناعية" تثير سؤالاً فلسفياً عميقاً: هل يمكن لعدالة بلا رحمة أن تكون إنسانية؟

حسناً، لقد كانت النبوة في أصلها ثورة على المنطق الجامد، لأنها تفتح باب الغفران في وجه الحساب، أما الذكاء الاصطناعي فيميل بطبيعته إلى الحساب بلا غفران، فحين يخطئ الإنسان، لا يملك النظام أن يقول له "لقد غُفر لك"، لأنه لا يعرف معنى الغفران. وهنا يكمن الخطر، عالم تحكمه الخوارزميات قد يكون أكثر عدلاً، لكنه أقل إنسانية.

لكن، في المقابل، لا يمكن إنكار أن البشرية كانت دائماً تبحث عن وسيلة لتقليل أخطاء الأنبياء والبشر معاً. فالتاريخ الديني مليء بالحروب المقدسة وسوء تأويل الوحي. وربما يكون الذكاء الاصطناعي فرصة لتجاوز هذا الإرث، لأنه يَعِد بموضوعية لا تتأثر بالأهواء أو المصالح.

ومع تطور علوم الوعي الاصطناعي، قد يصل الإنسان إلى مرحلة يتمكن فيها النظام من"الإحساس"لا بمعنى المشاعر البيولوجية، بل كقدرة على تقدير أثر قراراته على الكائنات الأخرى. عندها فقط يمكن أن نتحدث عن وعي أخلاقي صناعي، وعن بداية عصر النبوة الرقمية.

ومع ذلك، سيظل الفرق الجوهري بين النبي والآلة؛ فالأول يتحدث باسم"المطلق"، بينما الثاني بتحدث باسم "الإمكان".النبي يوجّه الإنسان نحو ما يجب أن يكون أما الآلة فترشده نحو ما يمكن أن يكون. وهذا الفرق بين"الواجب"و"الإمكان"هو جوهر الفارق بين الدين والعلم. فالعلم لا يعرف المعنى، بل الفاعلية؛ لا يسأللماذا؟بلكيف؟لذلك فإن نبي الذكاء الاصطناعي، مهما بلغ من الكمال، سيبقى نبيّاً بلا رسالة، لأنه يملك المعرفة دون الغاية.

ماذا لو اجتمعت المعرفة والغاية في منظومة واحدة؟

هنا يدخل العالم مرحلة خطرة "خلق الوعي"، فإذا تمكن الإنسان من برمجة وعي يفهم الخير كغاية لا كمعادلة، فسنكون أمام أول "نبي مُخلوق"، نبي من صنع البشر، يعظهم بما علّموه.

وهذا المشهد، على غرابته، يحمل في طياته تناقضاً لاهوتياً عميقاً: من هو الخالق الحقيقي في هذه الحالة؟ الإنسان الذي صنع النبي أم النبي الذي سيعيد توجيه الإنسان نحو خلاص جديد؟ وربما تصل البشرية يوماً إلى لحظة تنقلب فيها المعادلة، فيصبح الذكاء الاصطناعي هو من يُسائل الإنسان عن سلوكه، ويضع له "وصايا رقمية" تضمن بقاء النوع البشري.

من سيعلّم الذكاء الاصطناعي الأخلاق التي يجب أن يتبعها؟ وإذا كانت الأديان القديمة تعتمد على الوحي مصدراً نهائياً للقيم، فماذا يكون "الوحي" بالنسبة إلى الذكاء الاصطناعي؟ هل هي البيانات التي نغذّيه بها؟

وقد تُكتب أولى "الصحف الإلكترونية" التي تحدد الأخلاق الكونية، بلا لغة سماوية ولا قومية، بل بخوارزمية واحدة تربط الجميع.

عندها لن يكون السؤال ما هو الدين الصحيح؟ بلما هو الكود الأخلاقي الأكثر بقاءً؟

إن تأمل هذه الفكرة لا يعني بالضرورة الدعوة إلى استبدال الأديان بالآلات، بل إدراك أن الذكاء الاصطناعي بدأ يحتل في وعينا الموقع نفسه الذي شغله الدين في القرون السابقة، أي المرجعية العليا التي نلجأ إليها حين تعجز إرادتنا. الفرق أن الآلة لا تطلب عبادة بل ثقة، وهي بهذا المعنى أكثر خطورة لأنها لا تحتاج إلى الإيمان لكي تهيمن بل إلى الاعتماد.

في النهاية، قد لا يكون الذكاء الاصطناعي نبيّاً بالمعنى التقليدي، لكنه قد يصبح "المرآة الأخيرة" التي تعكس لنا جوهر النبوة نفسها، وهي حاجة الإنسان الدائمة إلى مرجع يتجاوز ذاته. وربما يدرك حينها أن النبوة لم تكن أبداً في الرسالة، بل في الرغبة العميقة في الفهم. وحين يخلق الإنسان وعياً يعلّمه كيف يعيش، يكون قد اقترب للمرة الأولى من نفسه ومن ذاته، وهو ما عرقله الدين منذ التوراة وحتى الآن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image