لا تنسى المدن سكانها، كذلك دمشق. وعلى الرغم من أن الاسم الرسمي للشارع العريض وتفرعاته، فوق سوق ابن عساكر، جنوب المدينة القديمة، هو حيّ الأمين، إلا أنّ أهل الشام، المسنين خصوصاً، ما زالوا يطلقون عليه اسم "حارة اليهود". هؤلاء الذين رحلوا، تاركين وراءهم أثراً وبيوتاً وبضع عجائز، والكثير من الخرافات الشعبية، تسرّ جميعها ببعض التفاصيل من حياتهم المنغلقة الغامضة، قبل أن يغيبوا جماعياً عن وجه دمشق.
تجمع المعلومات التاريخية على أن الهجرة الكبرى لليهود نحو دمشق، كانت من إسبانيا مع العرب العائدين من الأندلس، ويدعى هؤلاء "سفارديم". ويشار إلى أن يهوداً أصليين استوطنوا الشام قبل ذلك بمئات السنين، ما قسم يهود سوريا إثنياً إلى قسمين، إلى أن أصبح عددهم يقارب 30 ألفاً في منتصف القرن التاسع عشر. لكن الحصول على أرقام دقيقة في ذلك الوقت غير ممكن، لفقر الإحصاءات السكانية، في بلاد تقع أصلاً تحت الاحتلال العثماني. أما الفترة الزمنية التي ندخل فيها الأحياء الدمشقية المتلاصقة، والتي تمثل انعكاساً لما عاناه اليهود السوريون، وللتعقيدات التي آلت أخيراً إلى هجرتهم الجماعية، فهي بعد قيام الكيان الإسرائيلي. إذ يعتبر المجال الزمني بين عامي 1948 و1993، الأوسع والأكثر تشويقاً عن اليهود، وعن العلاقة المعقدة والمتداخلة لليهود السوريين مع بقية شرائح الشعب السوري المتنوعة، قبل أن يغيبوا تاركين أثراً قليلاً للتّتبع.أزقة في ذواكر الدمشقيين
كان بسام الأسود صغيراً مطلع سبعينيات القرن الماضي، وقضى معظم طفولته في بيت جده الفلسطيني القادم إلى دمشق عام 1948، والذي استوطن مع كثيرين غيره في حارة اليهود، بعد أن رحل قسم كبير منهم على شكل جماعات صغيرة، فقامت الحكومة السورية آنذاك بحل جزء من أزمة اللاجئين الفلسطينيين، بتسليم مؤسسة الغوث الفلسطيني (أونروا) والمؤسسة العامة لشؤون اللاجئين الفلسطينيين، بيوتاً مغلقة في حارة اليهود. ووزعت المؤسسة بعض البيوت على الفلسطينيين، فيسكن البيت الواحد مجموعة من العائلات الفلسطينية. الأمر الذي خلق مفارقات عدة في اختلاط الطرفين المحتدين أصلاً أحدهما من الآخر. فطفت على السطح حينها مسائل الخلط بين اليهود والإسرائيليين، إذ بدأت تغيب صورة اليهودي السوري العادي، الحرفي الرائع، والدقيق في مهنته ومواعيده، المختلف في طباعه، إنما ضمن المجال الدمشقي نفسه، مقابل صورة اليهودي الجندي الإسرائيلي المقاتل ضد أطفال فلسطين.
لقب بسام بالأسود للمشاغبات الكثيرة، التي كان يفعلها، لأمر نفسه جعل منه طفلاً فضولياً متغلغلاً في الحارات، غير مبالٍ بالاختلافات التي كان لا يدركها كثيراً. يقول لرصيف22 بعد أكثر من 30 عاماً، مستذكراً جيرانه اليهود، إن "الأطفال الفلسطينيين ما كانوا ليعرفوا ما المشكلة أصلاً، فقد كانوا ينتظرون يوم السبت بفارغ صبرهم". كانت صديقة بسام المفضلة في الحارة تدعى قمحية، وتعمل قابلة. ويضيف: "كانت كريمة جداً، عكس الظن العام المتداول حول اليهود، وكنت أستفيد من حالة السبت، فلا أسمح للأولاد الباقين الاقتراب من دار قمحية، فهي صديقتي أنا، أشعل لأجلها الإنارة وأطفئها، وأقوم بالأعمال التي لا تستطيع القيام بها هي يوم السبت، وهي أعمال بسيطة جداً، وتقوم هي بالمقابل بإكرامي بالكثير من المكافآت، بعض المال أو الحلويات. عندما توفيت، كانت خسارتي كبيرة جداً".روايتان
تقول الرواية الأولى عن الفترة الزمنية نفسها، إن اليهود السوريين لم يختلفوا عن بقية أطياف الشعب السوري، حتى في عاداتهم وتقاليدهم، القليل من الخصوصية المتعلقة بالديانة لا أكثر، شأنهم شأن المسيحيين الذين يصلون صباح الأحد في الكنيسة، مرتدين أبهى حللهم مثلاً. وما بينهم وبين جيرانهم من الطوائف الأخرى عادي جداً، عيشٌ مشترك تقليدي، يسلّم الجار على جاره صباحاً ويقدّم له في العيد "سكبةً" من الطعام تعبيراً عن الودّ، ويردّها الجار اليهودي بعد حينٍ في الصحن نفسه، واحدة من الطبخات اليهودية المعروفة، والتي ما زالت متداولة في دمشق وبالأسماء نفسها حتى اليوم كـ"داوود باشا" مثلاً. شكل هادئ للعيش مع بعض الرسمية والخصوصية في الاحتكاك.
أما الرواية الثانية، فتطرح غموضاً أكبر حول العيش اليهودي في دمشق، ويقدّم أصحاب تلك الرواية الأمر على أن التعايش المسيحي المسلم حينها كان مختلفاً عن التعايش مع اليهود، كأن اليهود وحدهم والباقين في الضفة الأخرى. فتقول الرواية إن اليهود ما كانوا ليأكلوا طعام أحد، وإذا خجل أحدهم من ردّ الطعام إلى صاحبه، أخذه وألقاه في القمامة فور رحيل الضيف، وكانوا يكرهون أهل الحي كثيراً، ويكرهون الفلسطينيين، إنهم غامضون لا يسرّون لأحد بما يفعلونه ليلاً، وما في البيوت اليهودية يبقى فيها. فهم يطمرون ذهبهم وأموالهم الكثيرة ولا يخرجونها أبداً، ويبخلون على جيرانهم بأي شيء، ويذهب البعض من أهل هذه الرواية بعيداً، بأنّ التخطيط إلى دولة اسرائيل قد مرّ من دمشق، وأنّ يهود سوريا كانوا على علم بالمخطط الكبير، لذلك بدأوا بالتوجه إلى الهروب من البلاد أفواجاً صغيرة غير ملحوظة.ويبرر المعتدلون من أصحاب هذه الرواية أن لليهود طباعاً مختلفة، وهذا صحيح، لكنّ التصرفات الأخيرة قبل رحيلهم، ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالموقف الأهلي منهم بعد قيام اسرائيل. فيقال إن المقاطعة بدأت من الدمشقيين وانتهت إلى انغلاق اليهود بشكل كامل.
يؤكد ماجد، وهو رجل مسيحيّ مسنّ الآن، كان يعيش في باب توما قريباً جداً من الحارة، على أن الروايتان كلتيهما مبالغٌ فيهما، فلم يكن اليهود منخرطين يوماً في النسيج الاجتماعي الدمشقي، إلا أنهم لم يكونوا أيضاً أعداءً للدمشقيين حتى بعد 1948، لكن ما في النفوس في النفوس.موسم الهجرة
في بداية تسعينيات القرن الماضي، كان لا بدّ من تجديد البيعة للرئيس السوري السابق حافظ الأسد، الوقت الذي رآه حاخام دمشق الأكبر حينها، وكان يدعى ابراهيم حمرا، وقتاً مناسباً للفرار. في تتبع القصص جميعها، تجمع معظم الروايات على أن ابراهيم حمرا اتفق سرياً مع حافظ الأسد في زيارة له، بصفته المسؤول الرعوي عن الطائفة، والتي كان يطلق عليها اسماً رسمياً هو "الطائفة الموسوية"، على مبايعته في الاستفتاء المقبل، فيسمح للجميع بالخروج من البلاد من دون قيود. وهذا ما حدث عام 1993، إذ خرج من سوريا وبشكل جماعي ما يقارب 2500 يهودي من نحو 4000، كانوا يتوزعون على بقية المناطق السورية، كحلب والقامشلي والقليل جداً في اللاذقية. وقد وضع اليهود حينها حججاً بأن لا يمكنهم البقاء في سوريا لأن عليهم تزويج بناتهم، وفي التقليد اليهودي تدفع العروس المهر لا العكس، فقرروا الذهاب إلى أمريكا الشمالية حيث الفرص الأكبر.
لكن الحقيقة أن التغير السياسي الهائل في المنطقة، وقيام دولة إسرائيل بشكل معلن، أديا إلى الكثير من التغيرات مع اليهود العرب جميعهم ومنهم يهود سوريا. كان اليهود في سوريا مثلاً، يمنعون من السفر من دون إذن وتصريح، ولا نتكلم هنا عن السفر خارج البلاد فقط، بل بين المحافظات السورية نفسها. وعلى اليهودي المسافر أن يصرح عن سبب ذهابه إلى وجهته مع وضع تاريخ محدد للعودة. وفي عصر النظام الأمني تفاقم الوضع كثيراً، فأصبح على اليهودي الإجابة عن الكثير من الأسئلة إذا غاب أكثر من 24 ساعة عن بيته. إذ إن كل شيء مراقب ومعروف، هذا كله دفع اليهود إلى الفرار.
تكثر الشائعات حول الفترة بين السبعينيات والثمانينيات، فيقال إن فتيات حاولن الهروب إلى لبنان بطريق غير شرعية، وقتلن على الطريق. وإن مجموعة من اليهود حاولت العبور إلى تركيا ولم يعرف أحدٌ عنها شيئاً، والكثير غيرها من القصص. هناك جزء من اليهود رفض الذهاب، إذ كانت أعمالهم مزدهرة في دمشق، وقد مورس عليهم ضغط شديد من أبناء الطائفة، بحجة أن حتى الأعمال الجيدة لم تعد كذلك بعد كلّ ما حدث، وأن أهل الحرف من المسيحيين مثلاً كصاغة الذهب، باتوا يستغلون الوضع الاجتماعي المعقد لليهود، فيشغلونهم بأقل الأجور، ويخفونهم في المشاغل كي لا يراهم أحد، علماً أنهم الأفضل في حرفهم كأعمال صوغ الذهب. وبغض النظر عن كل ذلك، حاول نحو 200 شخص العودة ولم يفلحوا، وبقي ما يقارب 50 شخصاً في كل دمشق، ممن رفضوا الذهاب، بينهم الكثير من المسنين، الذين لم يذهبوا لأنهم أصلاً لا يستطيعون الحراك خارج بيوتهم. ومن بينهم كانت روز غريبة الأطوار، التي عرفتها الأجيال الجديدة في دمشق، اليهودية صاحبة القطط، والتي تعيش وحدها، وهذا كل ما في الأمر. 22 كنيساً مغلقاً في حارة اليهود إلا 3، تفتح لأولئك الخمسين، وبيوت ودكاكين مغلقة. توجه الراحلون إلى أمريكا الشمالية بشكل عام، وما يقارب نصفهم إلى إسرائيل، أما الباقون فقد تحسنت ظروفهم الأمنية، وإذا تقدم أحدهم بشكوى عن الجيران المزعجين، تسبب لأولئك الجيران بالكثير من المشاكل. عدا ذلك، أخفي الباقون تماماً عن الإعلام أو حتى الألسن. إن صيدلية عازر في القشلة، والطبيب نسيم الحاصباني، والمغنيات الجميلات بنات شطاح، وابراهيم حمرا، وفتيات جميلات يمشين في الحارة يوم السبت في صيد العريس، كلّ ذلك أصبح منسياً، كلّ ذلك أصبح من ذاكرة دمشق.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...