شكرا كرة القدم... رأيت فلسطين تفوز للمرة الأولى

شكرا كرة القدم... رأيت فلسطين تفوز للمرة الأولى

رأي نحن والتنوّع

السبت 13 ديسمبر 20256 دقائق للقراءة

مثل كثيرين، لم أكن أنتظر أن يفوز المُنتخب الفلسطيني في أيّ مباراة بكأس العرب 2025، وكنتُ أواسي نفسي مثلما واسيتها في أمم آسيا 2015 قائلاً: "يكفينا شرف المشاركة". فنحنُ جيلٌ لم يجرّب الفوز مِن قبل، تالياً لا نعرف كيف يبدو، ولا نعرف ماذا يفعل المنتصرون أصلاً! كما أنني—مثل غيري من الفلسطينيين— تربيتُ على الخسارة لكونها نتيجة طبيعية لكلّ شيء في حياتي، حتى أنني تأقلمتُ معها تماماً: خسارة الأماكن، الأهل، الأصدقاء، البيوت.

لذلك، عندما انتصر المنتخب الفلسطيني على قطر في بداية البطولة، ثمّ تأهل لاحقاً لدور ربع النهائي، أصابني ارتباكٌ غريب، كأن شيئاً ما انكسر في صورة الهزيمة التي رافقتني طوال حياتي. فهذا الفوز لم يكن رياضياً بقدر ما كان وجودياً تماماً، حيث هزم في رأسي فكرة أننا خُلقنا للخسارة، وأن ما نطمح إليه في أيّ شيء بحياتنا هو شرفُ المحاولة، المحاولة فقط وليس نجاحها. وفجأةً لم يعد السؤال: كم سنخسر؟ بل: ماذا سنفعل إذا انتصرنا؟ وكيف أعيدُ وغيري ترتيب وعينا على الفرح بدلاً من الحزن، نحنُ الذين لم نعرف الرّبح مِن قبل!

نحنُ أبناء الخسارة الأوفياء

لم تكن الخسارة حدثاً استثنائياً في حياتنا، بل كانت حالة دائمة تراكمت بهدوء حتى باتت جزءاً أساسيّاً من هويتنا. تأقلمنا معها فهي النتيجة الأكثر منطقية في حياتنا كفلسطينيين. ليس ذلك فقط، بل إننا بتنا على يقين ألا نور في آخر النفق، وأن "النهاية السعيدة" مجرّد كذبة نواسي بها أنفسنا حتى نستمرّ ليومٍ آخر في الحياة بيأسٍ أقل وأملٍ أكثر.

مثل كثيرين، لم أكن أنتظر أن يفوز المُنتخب الفلسطيني في أيّ مباراة بكأس العرب 2025، وكنتُ أواسي نفسي مثلما واسيتها في أمم آسيا 2015 قائلاً: "يكفينا شرف المشاركة". فنحنُ جيلٌ لم يجرّب الفوز مِن قبل، تالياً لا نعرف كيف يبدو، ولا نعرف ماذا يفعل المنتصرون أصلاً!

ومع مرور الوقت، لم نعد نغضب من الخسارة، وأصبحنا أكثر تصالحاً معها، حتى إن الفوز لم يعد هو ما نفكر فيه أصلاً، بل بات همّنا الأساسي هو كيفية النجاة بخساراتٍ أقل. فلا نطمح ألا يقصف البيت كاملاً، بل أن تبقى فيه غرفة سليمة تُمكننا من مغادرة الخيمة.

وإن كان لابدّ من موت العائلة، فليبقَ منها ناجٍ وحيد على الأقل. حتى في الرياضة، كنا نعرف دائماً أننا لن ننتصر، لذلك كنا نرفع من قيمة المشاركة، ونطمح بتمثيلٍ مشرّفٍ فقط. فنحن نشارك كي لا نختفي، لا كي نفوز، ونصفّق للحضور لأننا نعتقد—جازمين—أنه أقصى ما يمكننا تحقيقه.

عندما انكسرت صورة هزيمتنا بعدما رفع محمد صالح العرضية في الثواني الأخيرة ودخل الهدف في شباك منتخب قطر، شعرتُ بارتباكٍ رهيب: هل أحرزنا هدفاً فعلاً؟ هل يمكن أن ننتصر بالفعل؟ وعندما صَفّر الحكم معلناً نهاية المباراة، شككتُ في النتيجة وقلت إنّه يستحيل انتهاء المباراة بفوزنا. حدث الأمر نفسه بعدما انتهت مباراتنا مع سوريا وتأهلنا رسمياً إلى ربع نهائي البطولة، وكأنّ هذه الانتصارات كسرت صورة الهزيمة التي اعتدنا عليها طوال حياتنا، مما أحدث شرخاً صغيراً في وعينا الجمعي.

لم يكن هذا الشرخ فرحاً بقدر ما كان دهشةً مُقلقة. فنحن لم نعتد الفوز ولسنا مستعدين للتعامل معه، حتى إننا لا نعرف ماذا يفعل المنتصرون، كيف ينغمسون في الفرح دون خوف من انتهائه أو اختفائه فجأة، دون أن تنقلب الآية في النهاية لحزنٍ لا ينتهي. بدونا كمَن يخشى لمس شيءٍ جميل خوفاً من انكساره، كأنّ الانتصار كان مجرّد حالة مؤقتة علينا ألا نثق بها كثيراً.

الهزيمة ليست قدراً أبدياً

وعلى الرغم من ذلك، أجبرنا هذا الفرح على إعادة النظر في خساراتنا السابقة، على الاعتراف—ولو لمرةٍ واحدة—أنّ الهزيمة ليست قدراً أبدياً مكتوباً علينا، وأنّ النور في نهاية النفق يمكن أن يظهر بعد فقدان الأمل، كما أنه جرّدنا من دورٍ التزمنا بأدائه طويلاً: دور الخاسرين الأبديين.

ماذا يفعل المنتصرون؟ لأننا نعرف الهزيمة وتعرفنا، نجيد التعامل معها بعدما رافقتنا زمناً طويلاً، ولم نعرف ماذا يفعل المنتصرون. هل ينغمسون في الفرح دون حساب؟ هل يصرخون أم يستمرّون في التصفيق؟ هل يخشون من الخسارة في المرة القادمة أم لا يفكرون في ذلك؟

ربما لم نفز لأننا الأقوى، بل لأننا حاولنا أن نحيا على طريقتنا الخاصة. لذلك بدا فوزنا كفعل مقاومة رمزي لم يُغيّر الواقع، لكنه أربكه، وصنع أملاً خفياً في دواخلنا بعدما اعتقدنا طويلاً ألا مكان له على الإطلاق، حيث أوقعنا هذا الفوز في حفرة الشك لأول مرة: الشك في أن الخسارة هي النتيجة الوحيدة الممكنة

فالهزيمة مألوفة بالنسبة إلينا، نتعامل معها دون أيّ حذر، أمّا الانتصار فنخاف منه. فكيف يمكننا أن نثق به ونحن لم نجرّبه مِن قبل؟ فقد اعتدنا أنّ كلّ ما يخصنا قابل للكسر في ثانية: البيت، الأحلام، المدن، حتى الانتصار نفسه.

لذلك بدا فرحنا مرتبكاً، ناقصاً، خالياً من شيءٍ ما لا نعرفه. نعامله بحذر ونخشى أن يكون مجرّد حلم سنستيقظ منه بعد قليل على واقع الهزيمة. فقد ظهرنا كمَن يجرّب شعوراً جديداً لم يكن مسموحاً له الاقتراب منه. ولأننا اعتدنا على الوفاء لفلسطين ومشتقاتها، كنا نقدّم اعتذاراً سرياً للهزيمة، خوفاً من أن يعاقبنا الواقع بها لاحقاً. وهكذا، خلخلت انتصارات المنتخب ما اعتدناه، وكانت اختباراً هشّاً لفكرة أننا محكومون بالخسارة، أو أننا سنُحاسَب على الفرح بخسارةٍ أكبر.

الفوز كاحتمالٍ جديد لم يكن فوز المنتخب الفلسطيني ثمّ تأهله مجرد إنجاز رياضي فقط، بل كان بمثابة تمرين لنا على الخروج من دائرة الخسارة وتجريب المكسب ولو مرّةً واحدة قبل الموت بصاروخ أو قذيفة أو حتى رصاصة طائشة. فقد أقنعني ما حدث—وغيري كثيرين—أنه بالفعل "هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا".

وهذا بالضبط ما جعلنا ننتصر. فربما لم نفز لأننا الأقوى، بل لأننا حاولنا أن نحيا على طريقتنا الخاصة. لذلك بدا فوزنا كفعل مقاومة رمزي لم يُغيّر الواقع، لكنه أربكه، وصنع أملاً خفياً في دواخلنا بعدما اعتقدنا طويلاً ألا مكان له على الإطلاق، حيث أوقعنا هذا الفوز في حفرة الشك لأول مرة: الشك في أن الخسارة هي النتيجة الوحيدة الممكنة. مما جعلنا ندرك أنها مجرد احتمال من بين احتمالات أخرى كثيرة.

ما صنعه الانتصار قد لا يصبح الانتصار عادةً في حياتنا كفلسطينيين، وما يدلّ على ذلك أننا عدنا للخسارات اليومية سريعاً. ولكن ما حدث ربما لن يُمحى من ذاكرتنا بسهولة، رغم صعوبة أن يبقى صامداً في ذاكرة مثقلة بالخسارات. فقد رأينا فلسطين تنتصر للمرة الأولى، تخرجُ دون خسارة ولو مرّةً واحدة. وهذا وحده كافٍ لنسف فكرة الهزيمة التي تربينا عليها حتى أصبحت جزءاً من هويتنا. وحده كافٍ حتى لا ننسى أنّه يمكننا الانتصار مرّةً ثانية وثالثة وعاشرة… وكافٍ أيضاً لنصدّق أنّ الخسارة ليست وحدها قدر الفلسطيني، بل إن المكسب أيضاً احتمال وارد دائماً رغم كلّ شيء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

وراء كل تقرير في رصيف22، أيام من العمل: من التفكير والتحرير إلى التحقق والإنتاج البصري.

نحن نراهن على النوع، والصدق، والانحياز إلى الحقيقة والناس.

وحتى يستمرّ هذا العمل، نحتاج إلى من يؤمن بأنّ الجودة والحرية تستحقان الاستثمار.

Website by WhiteBeard
Popup Image