"بنات الباشا"… رحلة شخصية مثلية نجت من المقصّ الرقابي

حياة نحن والميم-عين

الثلاثاء 16 ديسمبر 20257 دقائق للقراءة

عام 2017 أصدرت الروائية نورا ناجي روايتها "بنات الباشا" عن دار أجيال، وهي الرواية التي ترشحت لاحقاً لجائزة ساويرس الثقافية قبل أن تصدر مرة أخرى في طبعة منقحة مع دار الشروق، مما منحها انتشاراً واسعاً وشعبية متزايدة مع القراء. هذا النجاح كان بوابة انتقال الرواية إلى محطتها التالية: التحول إلى فيلم سينمائي.

الفيلم عُرض لأول مرة ضمن مهرجان القاهرة السينمائي لعام 2025، وحقق إقبالاً كبيراً لدرجة نفاد تذاكر عروضه الثلاثة قبل موعدها بأيام، ليحمل لقب كامل العدد.

اللافت أن جزءاً كبيراً من هذا الزخم لا يعود إلى أسماء المخرج أو الأبطال، بل إلى الشعبية الكبيرة للرواية نفسها، التي لا تزال واحدة من أنجح أعمال نورا ناجي وأكثرها جرأة رغم صدور عدة روايات أخرى للكاتبة بعدها.

عنف مخفي تحت طبقات الحكايات

تفتتح الرواية بأحد أكثر مشاهدها صدمة: حادثة انتحار نادية التي تمثل نقطة الانطلاق المركزية للأحداث. من هذه اللحظة يتشعب السرد إلى عشر قصص مختلفة، كل منها يخص امرأة تعمل في صالون "الباشا" للتجميل بمدينة طنطا.

ومع تقدم السرد يتكشف للقارئ عالم الرواية المعتمد على فضح أوجه متعددة من العنف الموجه ضد المرأة داخل المجتمع.

لم تسبق نورا ناجي فقط الموجة النسوية الرابعة في تناول قضايا الاستغلال الجنسي داخل بيئات العمل، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك بتقديم شخصية كويرية بجرأة واضحة: منى، المرأة المثلية التي اضطرت إلى هجر مدينتها وأسرتها بعد اكتشاف ميولها الجنسية.

نزحت منى، وهي أولى شخصيات الرواية ترتيباً، من الإسكندرية بعدما حاول والداها إجبارها على دخول الدير في شبابها. تركت خلفها مدينتها وقصة حبها الأولى، وانتقلت إلى طنطا، المدينة الصغيرة التي جعلت العلاقات العاطفية محظورة عملياً عليها، فانزوت داخل حياتها المحدودة في الصالون، وتحديداً في حجرتها الخاصة المخصصة لإزالة الشعر بـ"الحلاوة"؛ وهو عمل يضعها في تماس مباشر مع أكثر أجزاء جسد النساء حميمية.

لم تسبق نورا ناجي فقط الموجة النسوية الرابعة في تناول قضايا الاستغلال الجنسي داخل بيئات العمل، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك بتقديم شخصية كويرية بجرأة واضحة: منى، المرأة المثلية التي اضطرت إلى هجر مدينتها وأسرتها بعد اكتشاف ميولها الجنسية

هكذا خلقت الرواية مفارقة لافتة بين قمع جنسانية منى وإتاحة الفرصة أمامها للاقتراب من أجساد النساء، وإن بصورة غير مشبعة.

الشخصية التي قاومت الحذف

حين انتقل العمل إلى السينما، قام السيناريست محمد هشام عبية بدمج بعض شخصيات الرواية العشر في عدد أقل لتناسب البناء السينمائي، إلا أنه رفض الاستغناء عن شخصية منى رغم حساسية طرحها.

تناول شخصية مثلية في السينما المصرية المعاصرة بات أمراً شبه مستحيل، ليس فقط بسبب الرقابة الحكومية، بل نتيجة الرقابة الشعبية الأشد تأثيراً، والتي باتت قادرة عبر حملات مواقع التواصل الاجتماعي على إحداث ضرر كبير بصناع أي عمل يتجاوز المألوف.

"الأدب يجب أن يشتبك مع أكثر المواضيع حساسية، دون أن يكون مدجّناً أو آمناً"

ومع ذلك، تم اختصار بعض تفاصيل منى في الفيلم، بخاصة تلك المتعلقة بميولها الجنسية وتصريحها بها، أو المضايقات التي تعرضت لها بسبب ديانتها المسيحية، أو طبيعتها المتلصصة كنتاج للقمع الاجتماعي، لكنها بقيت في العمل السينمائي شخصية محورية لا يمكن الاستغناء عنها نظراً إلى قيمتها الدرامية.

لماذا وُلدت منى أصلًا؟

في حديثها مع رصيف22، تعلّق نورا ناجي على سبب اختيارها لشخصية مثل منى قائلة إن الكاتبة أحياناً لا تختار الشخصيات، بل الشخصيات هي التي تلح عليها.

وتضيف أن معاناة المرأة واحدة مهما اختلفت ديانتها أو هويتها أو ميولها الجنسية، وأنها أرادت إبراز غياب الفروق في مقدار القهر والمعاناة بين النساء، كاشفة أن ما كتبته حول الضغوط التي تتعرض لها المثليات وجد صداه في الواقع لاحقاً في قضايا شبيهة مثل قضية سارة حجازي: "لدي تعاطف إنساني والكاتب يجب أن يتعاطف مع الجميع".

وتؤكد ناجي أن الكاتب الحقيقي لا يدفن رأسه في الرمال: "الأدب يجب أن يشتبك مع أكثر المواضيع حساسية، دون أن يكون مدجّناً أو آمناً".

وتوضح أن منى ليست شخصية ثانوية: "إنها الشخصية التي بُني عليها صالون التجميل، وأقدم العاملات فيه، وهي من اكتشفت جثة نادية، وكانت الأقرب إليها، إضافة إلى إجبار صاحب الصالون لها على إزالة الصليب الموشوم على يدها، وهو ما يمثل قهراً مركباً لها".

تشير نورا كذلك إلى أن الشخصية تسببت لها بمشاكل كثيرة، إذ يركز بعض القراء على وجود شخصية مثلية فقط دون أي اعتبار لبقية التفاصيل والطبقات السردية.

هذا وتذكر حملة على إنستغرام تطالبها بالاعتذار للمجتمع، مؤكدة أن الكاتب يجب أن يمتلك سعة الصدر لمواجهة الهجوم و"إلا فلن يكتب شيئاً صادقاً وده فرض عام على الكاتب"، على حدّ قولها.


نحو سينما تجرؤ على النظر مباشرة

من جانبه، يوضح محمد هشام عبية، كاتب سيناريو الفيلم، أنه آمن بأهمية منى من الناحية الدرامية، وأن بناء الشخصية في الرواية مغرٍ جداً للسينما بالنظر إلى بحثها عن الحب وإخفائها لهويتها الدينية والجنسية في آن واحد.

ويضيف أنه كان من الصعب التضحية بشخصية بهذه القوة، رغم كل التحديات: "التحدي الأكبر كان يتمثل في تمرير الشخصية للجمهور بدون استفزاز، عبر تناول الموضوع بحساسية غير صدامية".

ويكشف عبية أيضاً عن نقاشات دارت مع الرقابة في ما يتعلق بهوية منى المثلية والمسيحية، ومحاولة الرقابة مطالبتهم بالتخلي عن أحد البعدين، إلا أنه تمسك بالشخصية كما هي، مع تخفيف بعض التفاصيل في الفيلم، مثل حديثها مع الراهب حول حقها في اختيار من تحب.

ويختم حديثه بالقول إن النجاح الحقيقي لن يُقيّم إلا عند عرض الفيلم جماهيرياً خارج المهرجان.

يشكّل وجود شخصية منى في الفيلم انتصاراً فنياً هادئاً على طبقات الرقابة المتعددة التي تحاصر الصناعة اليوم، سواء الرقابة الرسمية أو الرقابة المجتمعية الأكثر حضوراً وتأثيراً.

ورغم أن السيناريو اضطر لتخفيف عدد من تفاصيل الشخصية، إلا أنّ مجرد الإبقاء عليها في السرد يمثّل موقفاً واعياً من صنّاع العمل تجاه الواقع الاجتماعي الذي تحاول الرواية تشريح، منى، بأبعادها المركّبة: امرأة، عاملة، مسيحية، ومثلية — تمثّل نموذجاً نادراً للمرأة المهمّشة داخل الهامش نفسه، وهو حضور يتجاوز الجدل الأخلاقي إلى قيمة درامية خالصة تتعلق بالوحدة، والرغبة، والمحو، والبحث عن مساحات صغيرة للوجود.

وبهذا، يصبح الفيلم امتداداً للرواية في سعيها لخلق مساحة لتمثيل شخصيات لا يُسمح لها غالباً بالاقتراب من الشاشة، ويثبت في الوقت نفسه إمكانية تقديم موضوعات حساسة بطريقة فنية رصينة دون صدام مباشر مع الجمهور أو المؤسسات.

يشكّل وجود شخصية منى في الفيلم انتصاراً فنياً هادئاً على طبقات الرقابة المتعددة التي تحاصر الصناعة اليوم، سواء الرقابة الرسمية أو الرقابة المجتمعية الأكثر حضوراً وتأثيراً

في النهاية، يقدّم فيلم "بنات الباشا" نموذجاً مهماً للكيفية التي يمكن أن تنتقل بها الروايات الجريئة إلى الشاشة من دون أن تفقد أصالتها أو تتحول إلى نسخة مموّهة مما كانت عليه، فالحفاظ على شخصية منى، رغم كل الضغوط، ليس فقط خياراً فنياً بل موقفاً إنسانياً يليق بروح النص الأصلي، ويعكس رغبة صناع الفيلم في احترام تعقيدات التجربة النسائية بمختلف أشكالها.

ومع صداه القوي منذ عرضه الأول في مهرجان القاهرة، يبدأ الفيلم نقاشاً أوسع حول الحدود الممكنة في تمثيل الهوية والجسد والتهميش في السينما المصرية المعاصرة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منذ البداية، لم نخاطب جمهوراً... بل شاركنا الناس صوتهم.

رصيف22 لم يكن يوماً مشروع مؤسسة، بل مشروع علاقة.

اليوم، ونحن نواجه تحديات أكبر، نطلب منكم ما لم نتوقف عن الإيمان به: الشراكة.

Website by WhiteBeard
Popup Image