في بداية التسعينات، بينما كان التيار الوهابي يتمدد وينتشر خطابه وصولاً إلى مصر، أصدر المغني محمد منير، عام 1996، ألبومه "من أول لمسة"، كان حمزة نمرة الذي يعتبر محمد منير مغنيه المفضل، صبياً في السادسة عشرة من عمره، وبينما كان يشاهد التلفاز ويقلب في القنوات، توقف عند قناة تعرض حفلة غنائية لمغنٍ أجنبي مشهور، كان الأداء ملهماً لحمزة الذي غمرته طاقة نشوة وحماس، وأراد أن يعبّر عن نفسه، فأحضر بسرعة غيتاراً ركنته أخته الكبرى أعلى الخزانة، وبدأ يعيد اكتشاف شغفه، وهكذا انطلق في رحلته مع الموسيقى بالتعلم بالتجربة والخطأ أولاً في لحظة إلهام غيّرت نظرته السابقة، بعدما كان قد كره الموسيقى لأن أسلوب المدرّس الذي أحضره والده إلى منزلهم في السعودية، كان أكاديمياً جافاً.
شاب متديّن
في "مدينة الرب"، حيث مدى البحر المفتوح الذي يمنح ناسها الشعور بالحرية وأصوات الأمواج التي تمتزج بأصوات الغناء الشبابي بالغيتارات على الكورنيش، حمل حمزة غيتاره بعد أن بدأ يؤمن بموهبته كملحن ومغنٍ، وخرج للشارع يغني أغاني صنعها بنفسه أو أغاني مغنيه المفضلين، ليجد من ردود الأفعال ما يشجعه على الاستمرار.
وبعدما بدأ الانسجام داخل هذا المشهد الفني، كان على أعتاب مواجهة مع فصل جديد في حياته، كانت المدينة الكوزموبوليتانية صارت معقلاً لنشاط الدعوة السلفية، دروسهم وخطبهم الدينية، تجذب الكثير من الشباب المتحفز بعاطفته الجياشة، أن يجد معنى لحياته في الانتصار لدين الحق والدولة الإسلامية التي حادت عنها مصر، من وجهة نظرهم.
ركن غيتاره ومسك كتب الفقه وبدأ يبحث ويستشير أهل العلم وذهنه مؤرق بالكثير من الأسئلة: "إزاي ربنا يديني موهبة من غير ما أقدر استثمرها؟ لو قدمت أغاني ليها معنى وقيمة، ليه يتم تحريمها وليه تتحرم الموسيقى من الأساس؟"
حمزة الطالب الجامعي حينها، الذي اختار دخول كلية التجارة بدلاً من معهد الموسيقى، كشاب متديّن، وجد نفسه محاصراً بفتاوى معلبة مسبقاً لتحريم الموسيقى في كل مكان، ما وضعه في مواجهة حادة مع ممثلي هذا التيار في الجامعة. "اللي بتعمله ده هيدخلك النار"، أول مرة بدأ الاستماع فيها لهذا الكلام، ارتبك بشدة، فمنذ صغره كان حريصاً أن ينسجم مع مبادئه ولا يخالف معتقداته الدينية، انتابه الخوف أن يمشي في هذا الطريق ويكتشف خطأه في النهاية، هذه المشاعر صدمت إحساسه بالمسؤولية تجاه موهبته التي صار هناك احتمال لتعارضها مع إيمانه.
ركن غيتاره ومسك كتب الفقه وبدأ يبحث ويستشير أهل العلم وذهنه مؤرق بالكثير من الأسئلة: "إزاي ربنا يديني موهبة من غير ما أقدر استثمرها؟ لو قدمت أغاني ليها معنى وقيمة، ليه يتم تحريمها وليه تتحرم الموسيقى من الأساس؟".
طلب الهداية والعون من ربه، وبعد فترة من التريث والتأمل، أدرك أن ثمّة تنوعاً في الآراء بين المذاهب الفقهية المختلفة، اطمأن قلبه لرأي ابن حزم الذي يعتقد أن الموسيقى مجرد وسيلة، بحسب النية يمكن أن تكون حلالاً أو حراماً، مثل الكوب إذا وضعت فيه مادة ضارة يكون حراماً وإذا وضعت فيه قيمة مفيدة يثاب عليها.
من هنا، خرج حمزة بإيمان داخلي أقوى بقيمة موهبته التي أعطاها له الله حتى يستخدمها في الخير.
ومع بداية انتشاره في مشواره الفني، وتلقي ردود الأفعال الإيجابية المختلفة من الناس، بخاصة عندما سمع الأطفال يغنون أغانيه، تأكد أنه على الطريق الصحيح.
تحطيم صنم البيرسونا
ربما بدأ تصنيف حمزة كفنان إسلامي منذ العام 2008 حين أصدر أول ألبوماته "إحلم معايا" والذي بدأ في صناعة أغانيه منذ العام 1999 بعد أن التحق بفرقة الحب والسلام بالإسكندرية، جاء الألبوم من إنتاج شركة أويكنينج المشهورة بإنتاج الأغاني الإسلامية، ممثلة في أبرز نجومها سامي يوسف وماهر زين.
إضافة إلى غناء حمزة بعض تترات البرامج الدينية مثل "سحر الدنيا" مع سمته الملتزم دينياً، المتجنب لغناء أغانٍ رومانسية أو ظهور فتاة يعيش معها قصة حب في كليباته، ودعمه لعبد المنعم أبو الفتوح المرشح ذو الخلفية الإسلامية - رغم توجهاته المعلنة الأكثر انفتاحاً وليبرالية - في انتخابات 2012، كما أن أغانيه كانت تجذب الكثير من جمهور الشباب الإسلاميين، باستثناء بعض الأغاني كان آخرها "مدد" ضمن ألبوم "هطير من تاني" عام 2018، وفيها يتحدث عن علاقة روحية بشكل عميق، تصلح للتأويل مع الله أو مع شخصية ملهمة في حياته.
سار حمزة في طريقه وهو يكسر التصورات السطحية عنه، مثل افتراض بعض المثقفين العلمانيين الذين لا يقبلونه بسبب خلفيته، أنه مجرد شاب خرج من كنف الجماعات الإسلامية ليغني أغاني سطحية تناسبهم، فهو لم ينتمِ لهم أصلاً وأعلن ذلك بوضوح
لم يقبل حمزة بشكل مباشر أي تصنيف يحصره في هذا الإطار الضيق، لكنه كان يصرح أنه يغني "أغاني إنسانية" وأن كل أغانيه عاطفية لكن على مستوى أشمل وأعمق من حصر العاطفة في العلاقة بين الرجل والمرأة، إذ إنه رفض القوالب والأنماط المسبقة التي يفضل الجمهور حصر الشخصية العامة فيها.
واللافت أنه لم يقف عند مجرد التصريحات، فاستمراره في إنتاج أغانٍ متنوعة، بشكل يختلف في الجودة والمضمون عن زملائه في أواكيننج، جعلت ألبوماته تتميز بتنوع وبطريقة لا تخرجه فجأة من البيرسونا - الصادقة - التي يعرف أنها تمثله بشكل ما، لكنه كان يحاول أن يظهر طبقاتها واحدة تلو الأخرى، كما أنه خلال تلك المسيرة، تطورت أفكاره الإنسانية والفنية والدينية واكتسبت أشكالاً أكثر نضجاً في أغانيه وتجريبه الموسيقي.
بدأ ظهور هذا الإتجاه عنده بقوة منذ تجربة تقديمه برنامج "ريميكس" عام 2016 بعد سفره من مصر، التي أعاد فيها إحياء أغاني الفلكلور بطريقة عصرية، مما وضح ثقافته كباحث وصانع موسيقي متكامل ومحترف يمتلك أدوات صنعته بحرفية ووعي، تمكنه من صياغة مشروعه الغنائي المهم.
بدأ باكتساب جمهور جديد من الناس العادية والنخبة خارج الشرائح المعتادة له سابقاً، تزامن ذلك مع انفصاله عن الشركة المنتجة لأولى ألبوماته "أواكيننج"، ليستطيع العمل بشكل أكثر استقلالاً والخروج من حصره في إطار الإنتاج الإسلامي، وإن كانت الشركة لم تفرض عليه نوعية أغاني معينة لا يفضلها، لكن يتضح هذا التوسع الكبير في انتقاله لحجم جمهور جديد متنوع عندما أصدر كليب أغنيته "داري يا قلبي" عام 2018 لتصل حالياً إلى 441 مليون مشاهدة على يوتيوب.
استمر حمزة في إثراء مسيرته، بدأ تدريجياً في غناء أغان شعبية بأسلوبه مثل "مش مهم" في ألبوم "مولود سنة 80" عام 2020، ويظهر في إحدى الحفلات وهو يغني راقصاً أغنية "رضا البحراوي" بعدما غيّر كلماتها بما يلائمه "جيت ع الرايق"، ويُتبعها بأغانٍ رومانسية عدة للحبيبة مثل أغنيته الأخيرة هذا العام "ما بتلاقينيش"، وإن كانت أغانيه الرومانسية، تتميز بأنها عميقة وغير مباشرة، فتصلح أن تكون للأم/ للصديقة أيضاً، كما تتسق مع الرؤية الدينية للعلاقات الزوجية طويلة الأمد، ممثلة في آية "لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ"، وتنتقد العلاقات السريعة أو غير المتزنة عاطفياً مثل أغنية "القصة واللي كان" عام 2020.
حين تصبح الموسيقى طريقاً إلى الله
سار حمزة في طريقه وهو يكسر التصورات السطحية عنه، مثل افتراض بعض المثقفين العلمانيين الذين لا يقبلونه بسبب خلفيته، أنه مجرد شاب خرج من كنف الجماعات الإسلامية ليغني أغاني سطحية تناسبهم، فهو لم ينتمِ لهم أصلاً وأعلن ذلك بوضوح.
رغم سعيه للاتساق مع مرجعيته الدينية، إلا أن حمزة يحترم الفن بحد ذاته، لا يراه ذنباً يستحق التوبة أو يزايد على زملائه الفنانين ممن يقدمون أعمالاً أكثر شعبية قد لا تنسجم معه
من خلال عرض تلك الصراعات والتحولات السابقة في المراحل المختلفة ورغم سعيه للاتساق مع مرجعيته الدينية، إلا أن حمزة يحترم الفن بحد ذاته، لا يراه ذنباً يستحق التوبة أو يزايد على زملائه الفنانين ممن يقدمون أعمالاً أكثر شعبية قد لا تنسجم معه.
باختصار، يمكن القول إن حمزة لا يصنف كفنان إسلامي بالمعنى الشائع الذي يقتصر على الأناشيد والأغاني الدعوية، الفن الإسلامي عنده له معنى أعمق وأوسع، ينسجم مع معنى عالمية الدين ممثلًا في آية "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"، والاعتراف بمعنى "الله أكبر"، وأن الممارسة الفنية ليست هدفاً بحد ذاتها بل هبة من الله يجب أن تستخدم لمعنى أسمى لتوصيل معنى وترك أثر وإفادة الآخرين. الفن عند حمزة وسيلة لتكبير المعنى الروحي وليس لتمجيد الأنا، مثل كلمات أغنيته "كله على الله" في ألبوم "قرار شخصي" الصادر هذا العام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



