حين كنت طفلة، كان جوابي التلقائي عن سؤال: "من أنت؟"، بأنني ولدت في المكسيك، لأبوين يهوديين من سوريا. هذا ما نحن عليه، وأنا أعتنق بكل إخلاصٍ إرثي الثقافي.
درست في الجامعة الإسبانية، وسُعدتُ بكثرة الكلمات الإسبانية الآتية من جذورٍ عربية، وفوجئت بأنّ الكثير من الكلمات التي نستعملها في العربية اليوم، بعد أربعمئة سنة، مرتبطة باللغة الإسبانية. لم تتكلّم جدّتي إلا العربية، الأمر الذي أجبرنا أن نتعلّم من اللغة العربية ما يكفي لنتواصل معها. كانت في الستين من عمرها عندما أتت إلى المكسيك مع ابنها، أبينا، وعروسه الصغيرة، أمّنا، في عام 1937. كان من الصعب جدّاً عليها التأقلم مع المكان الجديد، فهي كبيرةٌ لتتعلم لغة جديدة، ولا تستطيع التحدّث إلا مع القليل من الناس. كانت تلعن الطاهية المكسيكية بشتائم عربية، عندما كانت تخرّب إحدى وصفاتها في الطبخ، وسرعان ما تعلّمت الأخيرة تلك الشتائم فكانت تردّها لها. كان الوقت الوحيد الذي تستمتع به "التيتا" هو عندما تلعب الورق. وفي شوقها إلى حلب، ماتت عام 1957.
ذهبت إلى أندلسيا في إسبانيا، منذ عشرة أعوام، لأرى أين عاش أجدادنا حتّى القرن السادس عشر، وفي عام 2006، زرت سوريا أخيراً مع مجموعة بريطانية صغيرة. بدأنا بدمشق، ثم تعرّفنا إلى المناطق الأثرية شيئاً فشيئاً في الطريق حتّى حلب، مسقط رأس أجدادنا. كان الأمر عاطفياً ومدهشاً في الوقت نفسه، أن أكون في البيئة التي كونتني فيزيائياً، كأن ضباب الماضي قد اجتاحني. بقينا أربع ليالٍ في فندق بارون الشهير، والذي يعرف في مجتمعنا الصغير، بأنّه الفندق الذي يقضي فيه المتزوجون حديثاً ليلتهما الأولى. سمعتُ عنه كثيراً، كما أنه أحد الفنادق المفضّلة لدى قائد جولتنا، رئيس قسم الأنتيكا الشرق أوسطية في المتحف البريطاني.
في كلّ غرفة، صورة للورانس العرب، معلّقة فوق السرير، ويبدو واضحاً أنّ التغير الهيكلي الوحيد الحاصل خلال أكثر من 75 عاماً هو الحمامات المستحدثة. وقد كتبت رسائل إلى والدتي وصديقتها، التي انتخبت ملكة جمالٍ في زمنها، كما هو مكتوبٌ في جريدة حلب الحالية، وأرسلت الرسائل قبل مغادرتي سوريا من صندوق بريدٍ في دمشق. وللغرابة، كان صندوق البريد المقلوب، الانتظار في الدور، الرجل وراء الصندوق، كلّها بدت تماماً كما تخيّلتها.
أيضاً في حلب، ذهبت برفقة دليل أرمنيّ خاص، إلى حيّ الجميلية السكني، حيث عاش قومنا، وقد خاب أملي لأن الكنيس المغلق لا يمكن فتحه. كانت الأبنية القديمة الناجية، شبه خاليةٍ ومهدّمة، حدائد مزخرفة وجميلة تطوّق الشرفات التي تكاد تقع. هنا حيث اعتادت نساؤنا قضاء الساعات يثرثرن أثناء الحياكة، والكروشيه، والتطريز، يراقبن الحياة الجارية في الشارع تحتهنّ. أخبرتنا أمّي أنها اعتادت وإخوتها سحب مراتب أسرّتهم إلى تلك الشرفات العالية في ليالي الصيف الحارّة، للنوم في الهواء الطلق.
توقّفت في السوق لشراء عطر الياسمين كهدايا، ولم يكن هناك إلا عدد قليل جداً من السياح، فسرّ البائع كثيراً بدخول زبون، وعندما دفعت له المبلغ المطلوب تماماً، فوجئ كثيراً وسأل: "ستدفعين ثمن العطر كاملاً؟"، وكأنّه شعر بخيبة أمل أنّه لم يملك الفرصة للتفاوض، فأجبته أنّ السعر مقبولٌ جدّاً. إذ كان سعر كلّ زجاجة عطر من الزجاجات الاثنتي عشرة التي اشتريت، دولاراً أمريكياً واحداً، فشكرني وأعطاني زجاجتين مجاناً. سألني عن جنسيتي، فقلت: "أمريكيّة"، فأجاب بسرعة: "نحن نحبّ الشعب الأمريكي، قولي لأصدقائك أن يأتوا إلى سوريا". قال لي بعض الناس إن عليّ أن أقول إنني كندية وليس أمريكية، حرصاً على سلامتي، إلا أنني لم أستطع ان أفعل ذلك، ستكون إهانةً لبلدي وللشعب المضيف إذا كذبت.
[caption id="attachment_48977" align="alignleft" width="1073"] بائع العطور في حلب[/caption]دعوتُ محمّد إلى العشاء مع المجموعة، وهو شابٌّ طيّبٌ اشتريت منه سجاداً لأمّي وابنتي، وهذه المرّة فاوضته ليخفض السعر. يملك محمد وإخوته محلاً تجاريّاً جميلاً قرب القلعة يدعى "سباستيان"، درس في ليفربول في بريطانيا، وأضاف حضوراً لطيفاً إلى حفلتنا المكوّنة من تسعة أشخاص، استمتعنا جميعاً بصحبته، وأخبرنا أنّ الشقق الجديدة في المنطقة قرب جامعة حلب تساوي ملايين الدولارات حالياً. لم أتمكن من التواصل مع محمّد منذ بدء الأزمة في سوريا، وأقلق عليه وعلى عائلته.
لم يمضِ يومٌ من حياتي في المكسيك من دون ذكر حلب. رائحة المأكولات أشهى، الفواكه أطيب، عبير الأزهار أحلى، الهواء أكثر جفافاً، والناس طيبون ومضيافون، حتّى المقاهي تخلق جوّاً مناسباً للتسلية والعمل. وعلى الرغم من أنّنا لم نعد نعرف أحداً في سوريا، وظننت دائماً أنّ تلك الأحاديث عن سوريا منمّقة ومبالغ بها، فإن الزيارة فاقت توقعاتي. لا أستطيع شرح أسبابٍ منطقيّة لذلك، إلا أنّني أستطيع فقط أن أعبّر عن شعوري الجميل هناك، الشعور بالدفء، الراحة، الأمان، وببساطة أكثر الشعور بالسعادة، حتّى الطقس كان مناسباً، فلم أصب بالحساسية من الرطوبة كما كان يحدث معي في المكسيك وأمريكا.
زار المكسيك مرّةً، زوجان، كان الزوج يعزف على آلة العود، والزوجة تغنّي، لا أذكر من أيّ بلدٍ عربيّ قدما، إلا أنّ أبي أقنعهما بالبقاء لأكثر من أسبوعين، كان ينظّم الاحتفالات والنزهات، ويغنيّان لنا مع الأصدقاء، لم يكن يريدهما أن يرحلا.
تبقى حلب، كما ترون، راسخةً في عقولنا وقلوبنا. ومن المؤلم جدّاً رؤية المأساة السورية اليوم. أفقد قدرتي على التعبير عن حزني، لكنّني أستطيع القول إن الدول التي تستقبل اللاجئين السوريين ستلقى مكافأتها على ذلك، لأنّ معظم السوريين يملكون القدرة على العمل الجاد، وهم شعب طيّب ولطيف، سيكونون إضافةً ثمينةً لأيّ أمّة تدرك ذلك، وسيحضرون معهم الكثير من الطاقة الإيجابية إلى البلاد.
علّمنا أبي أن نحكم على الآخرين كأفراد فقط، وكان ذلك أفضل درس تعلّمته في حياتي.
ستّو شمّا ولدت في المكسيك لأبوين يهوديين كانا قد هاجرا من حلب في أربعينيات القرن الماضي بحثاً عن عيش أفضل. ستّو لم تزر سوريا إلّا في العام 2006، ولكنها بالرغم من ذلك لا زالت تتكلم العربية مع عائلتها المنتشرة حول العالم مثلها مثل العديد من يهود المشرق. لا تكفّ عن ذكر حلب وما حلّ بها من دمار نتيجة الحرب الدائرة في سوريا اليوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.