اعتدنا في الروايات أن يكتب الكاتب الرواية ليقصّ علينا سيرة الأبطال وحكاياتهم، لكن إبراهيم فرغلي في روايته الجديدة "معبد أنامل الحرير"، يأبى إلا أن يغيّر ما اعتدناه. فيسلّم الرواية نفسها مهمة الكتابة عن الكاتب، ومهمة كشف ذاتها أمام القارئ لتقصّ عليه ما بداخلها. هكذا يؤنسن الرواية ويمنحها صوتاً ويسمح لها بأن تأخذنا إلى أجواء غرائبية تمتزج فيها بضعة عوالم.
من خلال رواية كبيرة تخفي بداخلها فصول رواية ثانية، يحكي الكاتب قصة نصٍّ روائي متروك على متن زورق في البحر، من دون أن يعلم أين اختفى صاحبه. "في الساعات القليلة التي سبقت اختفاءه كان قلقاً، متوتراً. أخرجني من درج خشبي معتم، ثم دفسني بين أغراضه في حقيبة يد حملها على كتفه، ألقى بها على أرض قارب صغير كان موثوقاً بحبل غليظ يربطه بالباخرة. وبعد أن حلّ عقدة الحبل، جلس في موضع يتيح له الإمساك بمجذافي القارب، وظل يجذف بقوة ودأب حتى ابتعدنا عن السفينة".في رحلة البحث عن صديقه المختفي يعثر قاسم على النص الروائي، يحتفظ به في غرفته، ويبدأ بقراءته أثناء الرحلة البحرية للعثور على رشيد كاتب النص، فنصبح أمام ثلاث روايات متداخلة، الأولى هي الرواية التي كتبها رشيد ووضع لها عنوان "المتكتم"، والثانية هي الأحداث التي ترافق رحلة السفينة وبحث قاسم عن صديقه، والثالثة هي حكي الرواية عن نفسها، عن وعيها لذاتها بوصفها جنساً أدبياً، وعن سيرة كاتبها المختفي.
هذه الروايات المتداخلة تشكّل كلاً منها عالماً قائماً بذاته، ففي رواية "المتكتم" يأخذنا الكاتب ضمن أجواء فانتازية شديدة الغرابة، ليحكي قصة مدينة تحت الأرض يسميها "مدينة الأنفاق"، يهرب إليها كل من ضاق ذرعاً بالحياة فوق الأرض، حيث مدينة الظلام التي سيطر عليها المتكتم وأعوانه، وفرضوا رقابتهم على الكتب والموسيقى والسينما، وحرية الجسد والفكر وكل شيء. تدين هذه الرواية الرقابة بجميع أشكالها، وتبيّن آثارها المدمرة على الناس والمجتمع، وعلى الثقافة والتطور، وكيف أن كل واحدٍ من العاملين في تلك المؤسسة يتحول إلى شخص شكّاك، أو واشٍ بغيره لينال حظوة.
يهرب كيان، وهو واحد من الرقباء الذين أدركوا فداحة ما يفعلونه، إلى مدينة الأنفاق، وينضم إلى جماعة النسّاخين الذين يحاولون الحفاظ على الكتب الممنوعة بإعادة نسخها، ويرصد من خلال وجوده هناك طبيعة الحياة والنشاطات التي تحتفي بالحرية بأكثر من طريقة، ناقلاً النقاشات التي تدور بينهم حول كيفية مقاومة المتكتم في مدينة الظلام، وإيقافه عن تحويل البلد إلى خراب، إلى أن يجدوا أخيراً طريقة مبتكرة لفعل المواجهة ذاك. "بعد تفكير قرر طرح مشروع مبدئي للثورة، يتم خلاله نسخ النصوص الممنوعة على الأجساد البشرية، وتم الاتفاق على أن يبدأ الأمر بجسد السيدات لإحداث صدمة أولاً، ولأن مهاجمة السيدات لن تكون بسهولة الهجوم على الرجال، قال موضحاً إن السيدات سيخرجن إلى مدينة الظلام وهنّ متشحات بالسواد ولكنهن في أماكن بعينها، ووفق تنظيم محدد وفقاً للنصوص سوف يخلعن ثيابهن فجأة ويقفن في حشد ضخم".
يبني فرغلي روايته بشكلٍ تتشابك فيه الحكايات والأفكار المتعددة، وكأننا داخل متاهة، كان باب الدخول إليها حبكة واحدة تتمثل في البحث عن كاتب، لكن استمرار التقدّم في كل ممرٍ فيها يقودنا إلى ممرات أخرى، وهذه الحبكة تتفتح فيها حبكات فرعية جديدة كلما توغلنا في السرد. فالسفينة التي يبحر عليها قاسم تضمّ عدداً من الشخصيات المختلفة، وتجري على أرضها صراعات وأحداث كثيرة، ينقلنا الكاتب بينها جميعاً، ولا شكّ أن الجهد البحثي المبذول للإحاطة بجميع هذه المسائل كان كبيراً جداً، خصوصاً أنها مواضيع، بعضها بعيد عن مجتمعنا، ومن هذه المواضيع: عالم القراصنة، والمخطوطات النادرة وأنواعها، وعصابات تهريب اللاجئين غير الشرعيين، والنزاع بين الصومال وإثيوبيا وانعكاساته على الناس، والمثلية الجنسية.
يُظهر الكاتب كيف أن ما يمر به الروائي في حياته الواقعية من تجارب ووقائع ونقاشات يؤثر على مسار نصه الروائي الذي يكتبه، وأن بعض الأحداث المتخيّلة التي يكتبها هي معادل لأحداث حقيقية في الواقع. وقد نجح الكاتب في إيصال هذه الفكرة، من خلال تقطيعه كلام الرواية عن نفسها، وعن ظروف كتابتها، والمواقف التي عاشها صاحبها، ووضعها بين الفصول التي يضمها متنها، مبيّناً كيف أن علاقة كاتب الرواية العاطفية مع فتاة ألمانية والتقلبات في هذه العلاقة، قابلتها علاقة الشخصيتين الرئيسيتين في رواية "المتكتم"، وكيف أن تعرّض الكاتب لموقف تاه فيه في بناء ضخم يشبه المتاهة، قاده إلى كتابة مشهد يتوه فيه البطل في مدينة الأنفاق، وزيارته لمعبد بوذي أوحى له فكرة "معبد أنامل الحرير"، الذي يجري نسخ المخطوطات فيه.
ربما تبدو هذه الرواية مرهقة بحجمها الكبير وبتنوّع عوالمها وأسلوب كتابتها، لكنها مع ذلك يجب أن تقرأ، لأنها على الرغم من أجوائها الفانتازية، هي شديدة القرب من المواضيع الشائكة التي تؤرقنا اليوم، سواء في موضوع الشرق والغرب وأفكارنا عنه، أو في بحث الإنسان عن الهوية، أو في التعصب الأعمى وآثاره. والأهم أنها رواية تنتصر للفن، وللحرية بجميع أشكالها، وتؤكد من جديد أن الفن يبقى حتى لو غاب صاحبه.
إبراهيم فرغلي، كاتب مصري من مواليد عام 1967. حاصل على إجازة في إدارة الأعمال من جامعة المنصورة. عمل في الصحافة في عدد من الصحف والمجلات العربية. له ثلاث مجموعات قصصية: "باتجاه المآقي"، "أشباح الحواس"، "شامات الحسن". وروايات للفتيان منها: "مغامرة في مدينة الموتى"، "مصاصو الحبر".
وله خمس روايات: "كهف الفراشات"، "ابتسامات القديسين"، "جنية في قارورة"، "أبناء الجبلاوي" التي فازت بجائزة ساويرس - فرع كبار الكتّاب عام 2013، "معبد "أنامل الحرير".
الناشر: منشورات ضفاف/ بيروت، منشورات الاختلاف/ الجزائر
عدد الصفحات: 520
الطبعة الأولى: 2015
يمكن شراء الرواية من موقع آرابيك بوك شوبرصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...