خلال السنوات الأخيرة، زاد حضور الدين في حيّز النقاش العام وزاد اهتمام الناس أكثر فأكثر بالشأن الديني. ولكن هذا الاهتمام لم ينعكس إيجاباً على وضع المعالم الدينية التاريخية إذ ازدادت حالتها سوءاً.
عقب سقوط النظام السابق، عام 2011، وفي ظل انشغال الناس بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية وغرقهم في المعارك السياسية، تعرّضت مساجد ومقامات صوفية ومعابد يهودية وكنائس ذات قيمة تاريخية للتخريب المُمنهج، أو عانت من الإهمال والنسيان برغم وجود ترسانة من التشريعات التي من المفترض أن تحميها.
حرق المقامات الصوفية
بعد الثورة تعرّض أكثر من 150 ضريحاً ومقاماً صوفياً للحرق والتخريب. بل وصل الأمر إلى حرق مقامات لأولياء صالحين يُعتبرون رموزاً للثقافة الشعبية والدينية في تونس، كما حدث مع ضريح الولي "أبي سعيد الباجي" الذي أحرقته، في يناير 2013، مجموعة من المتطرفين دينياً، وكاد ذلك يُحدث صراعاً طائفياً وقتذاك. فهذا المقام إلى جانب ما يمثله من تراث روحي كان يمثل رمزاً للتسامح الديني، يتبرك به التونسيون المسلمون وغير المسلمين.
وكان اتحاد الطرق الصوفية في تونس قد اتهم من سماهم "المتطرفين الوهابيين" بالوقوف خلف العمليات التخريبية التي طالت المقامات الصوفية. ويشجع رجال الدين المنتمون إلى المذهب الوهابي على هدم المقامات والأضرحة، ويعتبرون ذلك "عملاً صالحاً يؤجر عليه فاعله عند الله".
وأشار عمر الكوز، رئيس جمعية الطليعة الثقافية، إلى أن "تمدد نشاط الجماعات الدينية السلفية في تونس بعد الثورة، أكسبها قوة جعلتها تتجرأ على الاعتداء على رموز روحية وثقافية وشعبية للشعب التونسي". وقال لرصيف22 إن "هذه الجماعات وجدت كل التشجيع من أحزاب الإسلام السياسي الحاكمة، وعلى رأسها حركة النهضة التي شهدنا خلال فترة حكمها مئات الاعتداءات على الزوايا والمقامات الصوفية التي شكلت لقرون منابر للتسامح والتآخي بين التونسيين، بل كانت مدارس ومراكز لإغاثة الأرامل واليتامى والمشردين المسلمين واليهود على السواء".
ولفت إلى أن "الزوايا الصوفية لعبت دوراً في حماية الإنسان بغض النظر عن لونه وعرقه ودينه، وكانت فترة الحكم النازي خلال الأربعينيات من القرن الماضي دليلاً على ذلك، عندما هرب إليها الكثير من أبناء بلدنا اليهود".
وبدأت هذه الاعتداءات منذ عام 2012 الذي شهد هدم الجزء العلوي من قبة الولي "سيدي المحارب" في منطقة الفالاز المُطلة على شاطئ البحر في محافظة المنستير، وسبقت ذلك اعتداءات على مقامي وليين صالحين ونبش رفاتهما، كما هدمت قبة زاوية "سيدي يعقوب" في منطقة مطماطة الجديدة التابعة لمحافظة قابس بالجنوب الشرقي، وهدم ضريح الولي الصالح سيدي عسيلة في ضاحية بادرو في العاصمة، وحرقت مقامات الأولياء "عمر السماتي" في مقبرة في ضواحي مدينة سبيبة في محافظة القصرين في الوسط الغربي، و"علي الحشاني" في منزل عبد الرحمن في محافظة بنزرت شمال تونس، و"سيدي عبد القادر" في مدينة منزل بوزلفة شمالاً، و"السيدة المنوبية" في محافظة منوبة، و"سيدي صالح" في محافظة جندوبة في الشمال الغربي، وضريحيْ "سيدي عبد السلام" في العاصمة و"سيدي عبد العزيز" في ضاحية المرسى.
الكنائس تتحول إلى قاعات رياضية
لم تتعرض دور العبادة المسيحية لأيّة اعتداءات مادية لكن وضعها القانوني يشكو من خلل كبير. كما أن بعضها لفّه النسيان والإهمال فلم يعد صالحاً للقيام بدوره الديني. وقد كتبت الباحثة رانيا الشابي دراسة حول "الحماية القانونيّة لدور العبادة غير الإسلامية بتونس"، وقالت لرصيف22 "إن هنالك حماية توفّرت لأماكن عبادة دون غيرها". ذلك هو الحال بالنسبة لأماكن العبادة الكاثوليكية التي أدرجت ضمن اتفاقية التسوية الوقتية التي أبرمتها الدولة التونسية سنة 1964 مع الفاتيكان وكان لذلك آثار هامة على هذه الدور.
وروت أنه "بعد الاستقلال (1956) سعت الدولة إلى تسوية وضع الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تعتبر وقتذاك من أكبر ملاك الأراضي والعقارات في البلاد، فكانت اتفاقية التسوية الوقتية. وبموجبها، تم تسليم كل الكنائس للدولة باستثناء خمس كنائس كبرى. وفي المقابل تعهدت الدولة عدم استعمال الأماكن المخصصة للطقوس إلا لأغراض ذات مصلحة عامة ملائمة لأغراضها السابقة".
وأضافت الشابي: "هنا يطرح السؤال: ما هو الغرض الملائم الذي يمكن أن يحلّ محل العبادة؟ الاتفاق لم يجب عن ذلك، واليوم بعد 50 سنة على إبرامه نجد أنفسنا مجبرين على التساؤل عن مدى وجاهة انتزاع كل هذه الأماكن المخصصة للطقوس إذا لم يكن للحكومة آنذاك خطة لاستثمارها وإعادة تهيئتها؟".
وتابعت: "غالبية هذه الدور إما قد تم استغلالها في أغراض خارجة تماماً عن الوجهة العادية لكنيسة تحتوي على نقوش ولوحات وزخارف تمثل تراثاً جمالياً وثقافياً، إذ جرى تحويل بعضها إلى قاعات رياضية مثلما حدث لكنيسة صفاقس، والبعض الآخر مهجور تماماً مثل كنيسة "بنزرت" التي تقع قرب "سد جومين"، كما حوّلت كنائس إلى مكتبة عمومية ككنيسة "طبربة" أو محكمة ككنيسة "منزل بورقيبة" أو شعبة دستورية ككنيسة "العوينة" (العاصمة) التي تحولت بعد الثورة إلى قاعة ملاكمة".
ولفتت الشابي إلى أن قانون المساجد لسنة 1988 ألزم الدولة بحماية دور العبادة الإسلامية لكنه أهمل جانب الحماية للمعالم الدينية غير الإسلامية.
المعابد اليهودية تواجه الإهمال
لا يختلف حال المعابد اليهودية في تونس كثيراً عن حال الكنائس. وبرغم الحضور اليهودي البارز اقتصاديا وثقافياً، فإن كثيراً من معابد اليهود تواجه مخاطر الاندثار بسبب الإهمال. فبعضها مهدد بالسقوط أو بالخراب كما حدث مع معبد مدينة المُكنين شرق البلاد، وهو من أقدم المعابد في تونس بعد معبد الغريبة الواقع في جزيرة جربة، جنوباً، وقد أتلفت أغلب محتوياته ونقوشه بفعل الزمن والعوامل الطبيعيّة والإهمال.
وقام وزير الشؤون الدينية التونسي وباحثون من المعهد التونسي للتراث (مؤسسة حكومية) قبل فترة وجيزة، بمعاينة آثار التخريب والاعتداء على المعبد. وأكّد الوزير خلال هذه الزيارة "ضرورة المحافظة على المعالم الدينية الإسلامية ومختلف الأديان وترميم ما تبقى منها" داعياً مختلف الأطراف في الحكومة والمجتمع المدني إلى التنسيق وتوحيد الجهد لتستعيد المعالم الدينيّة مكانتها التاريخية والثقافية والسياحية والاقتصادية.
وقد بيعت بعض المعابد وتحولت إلى مساكن ومحالّ تجارية، كما حدث مع المعبد اليهودي في مدينة بنقردان، جنوب شرق البلاد. غير أن المعهد التونسي للتراث استطاع إنقاذ معبد "تطاوين" أقصى الجنوب، قبل أن يلقى نفس المصير، وذلك بعد وقوف منظمات المجتمع المدني في المدينة في وجه عملية بيعه من قِبل أحد المواطنين اليهود إلى تاجر محلي.
ويقع "كنيس تطاوين" وسط المدينة القديمة، ويتألف من قاعتين كبيرتين في كل واحدة منهما فناء مربع الشكل تحيط به أروقة مستطيلة، وقد انهار السقف الخشبي المزركش لفناء قاعة الصلاة الرئيسية.
وقال الباحث في معهد التراث علي الثابتي إن "مالك المعبد الجديد كان يعتزم بيعه وإنشاء متاجر مكانه، غير أن معهد التراث أوقف إجراءات الهدم، مقترحاً ترميمه نظراً لقيمته التاريخية الكبيرة، فقد كان نواة المدينة التي تأسست في القرن التاسع عشر، وفيه نقوش وأثار ذات قيمة روحية وتاريخية نادرة".
وأضاف: "يتذرع البعض بأن مبنى المعبد عُرضة للسقوط من أجل إنهاء وجوده تماماً، ونحن في المعهد اقترحنا ترميمه والمحافظة عليه. حالته الإنشائية مستقرة عموماً وهو في حالته الحالية لا يشكل أي تهديد لسلامة المارة، ويمكن صيانته بالاعتماد على مواد بناء تقليدية تتماشى مع طبيعة المواد المستخدمة في تشيد البناء الأصلي".
وأكدت الشابي أن "المنظومة القانونية التونسية اليوم قاصرة عن توفير حماية متكاملة لدور العبادة غير الإسلامية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...