أُثيرت نقاشات واسعة في المجتمع المصري في شأن "قضية حرية تداول المعلومات، وإتاحتها، وإنتاجها"، بحيث يسهل على المواطنين الاطلاع عليها بعد أن احتكرتها الدولة على مدى عقود.
ثورة يناير وفتح السجال
عقب ثورة 25 يناير 2011، تكرر مشهد شبه يومي. أمام الوزارات والهيئات والدواوين والشركات الحكومية والبنوك، نظّم موظفون فيها وقفات احتجاجية، وأمسكوا بأيديهم آلاف الوثائق المدموغة بعبارة "سري جداً".
خرجت إلى العلن مجموعة وثائق لم يكن ممكناً الاطلاع عليها من قبل، بعد سحبها من أدراج كبار المسؤولين وأخذ طريقها إلى جهات التحقيق.
هكذا فُتح نقاش واسع حول حرية تداول المعلومات. منظمات المجتمع المدني اقترحت قانوناً، والجمعية التأسيسية الأولى المكلفة وضع دستور 2012 أقرت للمرة الأولى مادة ألزمت فيها الدولة بإتاحة المعلومات، كما طرحت وزارة العدل مسودة قانون يخوّل كل مواطن دفع مبالغ مالية رمزية للحصول على المعلومة التي يريدها.
من جانب آخر، وللمرة الأولى أيضاً، نصت مسودة وزارة العدل، في المادة الخاصة بالأجهزة الرقابية، على علانية التقارير التي تصدرها تلك الأجهزة، بعد أن كانت سابقاً حكراً على الرئاسة والحكومة وأعضاء مجلس النواب، وكانت تُدمغ بعبارة "سري جداً"، ويُقيّد الوصول إليها بدعوى "الحفاظ على الأمن القومي".
وفي الدستور الذي أقرّ عام 2014، بعد مرحلة تقلبات سياسية حادة، أكدت المادة 68 منه على حرية تداول المعلومات، ونصت على أن المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية. كما وضعت عقوبات على حجب المعلومات، إلا أنها شددت على مراعاة "الأمن القومي". ولكن إلى الآن، بعد عامين على إقرار الدستور، لم يرَ قانون "حرية تداول المعلومات" النور.
سري جداً
يمتلك الجهاز المركزي للمحاسبات، أحد الأجهزة الرقابية، ملايين الوثائق الخاصة بالرقابة على المال العام. وكيله السابق عاصم عبد المعطي، وهو حالياً يترأس المركز المصري للشفافية ومكافحة الفساد، قال لرصيف22 إن "دستوري 2012 الملغى ودستور 2014 المعمول به حالياً ألزما الجهاز المركزي للمحاسبات بإزالة عبارة "سري جداً" عن التقارير الرقابية، ونصا على علانيتها وتمكين المواطنين من الاطلاع على ما تتضمنه في ما خص إنفاق الموازنات التي رصدت للهيئات الاقتصادية والخدمية والوزارات والدوواوين والمشروعات القومية وغير القومية، وحركة أموال المودعين في البنوك. ومع ذلك إلى الآن لم يرَ قانون الجهاز الذي ينظم مسألة العلانية وإتاحة المعلومات النور".
وروى أنه في بداية عام 2014، عقد رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات مؤتمراً صحافياً، إعمالا لمبدأ علانية التقارير، وأعلن خلاله عدداً من المخالفات الضخمة التي رصدتها التقارير، ما أثار زوبعة كبيرة لأنها مست أشخاصاً وهيئات قضائية وجهات أمنية. ومنذ ذلك الحين لم يتكرر ذلك". وأكّد أنه "لن يتسنى لنا نحن العاملين في حقل مكافحة الفساد العمل إلا من خلال الشفافية وإتاحة المعلومات أمامنا حتى نؤدي دورنا".
الدولة العسكرية تحجب المعلومات
"إن الدولة المصرية استطاعت على مدار ستة عقود، ومن خلال بنية تشريعية وممارسات إجرائية احتكار ما يزيد عن 80% من المحتوى المعلوماتي"، قالت لرصيف22 مديرة برنامج الحق في المعرفة وحرية تداول المعلومات في مؤسسة حرية الفكر والتعبير رؤى غريب، مضيفةً أن "الدولة تتعامل باعتبار أن الأصل في الأمور هو حجب المعلومات لا الإفصاح عنها وتداولها بحریة، وأنها تُعتبر ملكاً للدولة التي تقوم بدور الولي والوصي على المواطنین في ما یتعلق بملكیة وإدارة هذا المحتوى وتوظیفه واستخدامه وطرق تداوله".
وتابعت أن "الطابع العسكري الوصائي الأبوي للدولة تمكن من ابتلاع المجتمع وهيمن على المعرفة وطريقة الوصول للمعلومات من خلال الجهاز البيروقراطي، وعلى المجتمع أن یتلقى فقط المعلومات التي ترى السلطة أنه بحاجة إلیها أو یستحقها أو یمكن أن تحقق منفعة لاستقرار وبقاء نظامها أو تدفع عنها ضرراً".
التعبئة العامة والإحصاء
على صعيد منظومة إنتاج المعلومات الرسمية في مصر، فإن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء هو الجهة الوحيدة المخولة بذلك. وقالت غريب إن "أخطر المواد الواردة في قرار إنشائه هو نص المادة العاشرة، الذي من خلاله احتكر الجهاز الإحصاءات والبیانات إذ نصّت على أنه لا یجوز لأیّة وزارة أو هیئة أو جهة أو أيّ فرد أو أفراد في الحكومة أو القطاع العام أو القطاع الخاص أن ینشر معلومات إحصائیة إلا من واقع إحصاءات الجهاز نفسه".
لم تقف فلسفة الحجب والمنع عند هذا الحد، بل أصدر رئیس الجهاز القرار رقم 22 لسنة 1968 الذي يحظر أن تنشر الصحف والمجلات والمطبوعات على اختلاف أنواعها بیانات ومعلومات إحصائیة ونتائج استفتاءات، "وبذلك سمح للجهاز بأن یفرض ستاراً من الصمت على الصحافة ومراكز البحث العلمي والجامعات، ثم أضاف إليها بعد ذلك إجراء الاستقصاءات، بل وامتد الأمر إلى منع التعاقد لاستخدام آلات الإحصاء والحساب"، بحسب غريب.
جريمة حرية تداول المعلومات
من جانب آخر أكّدت هبة خليل، باحثة في المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أن "مسألة حرية تداول المعلومات في مصر تصطدم بعشرات التشريعات التي تتضمن ما يبيح الحجب بل وتجريم تداولها وإتاحتها".
وكأمثلة تؤكد ما ذهبت إليه، ذكرت المادة 4 من القانون رقم 28 لسنة 1982 والتي تنص على حبس وتغريم مَن يفشي معلومات اطلع عليها بحكم عمله في الإحصاء أو التعداد، وقانون العاملين المدنيين في الدولة الذي يحظر أن يفضي أي موظف بأي تصريح أو بيان عن أعمال وظيفته عن طريق الصحف أو غير ذلك من طرق النشر.
وأضافت خليل "من الأمور المثيرة للدهشة أن المعلومات في مصر لها أسعار، وأسعار باهظة لبعض المعلومات. فالأزمة تكمن في أن تصفح الموقع الإلكتروني للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وهو المركز المعلوماتي الأول في مصر، يتطلب منك إدخال اسم مرور وكلمة سر للوصول إلى معلومات أكثر تفصيلاً، وحتى لو قمت بالاشتراك ودفع التكاليف السنوية ستصل إلى عدد محدود من الإحصاءات، ولو أردت المزيد فستدفع آلاف الجنيهات (مئات الدولارات) من أجل الحصول على بيانات أكثر".
أمن قومي
عام 2013، أعلنت وزارة العدل المصرية مشروع قانون جديداً لحرية تداول المعلومات أتاح الإطلاع على الوثائق بعد 25 عاماً على صدورها، إلا أنه قيدها بعبارة "ما لم يمس الأمن القومي". وأمام هذا التقييد، انتفضت منظمات المجتمع المدني، من بينها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ومركز حرية الفكر والتعبير، واعتبرت أن ذلك يمثل انتقاصاً من حرية تداول المعلومات. وتقدمت بتعريف للأمن القومي يحصره بما يمت بصلة إلى القدرات العملياتية للقوات المسلحة، كما انتقدت اعتبار أن جهازي المخابرات العامة والمخابرات العسكرية لا يخضعان لهذا القانون.
على مستوى العالم، عملت دول كثيرة على إتاحة المعلومات لمواطنيها معتبرة ذلك جزءاً من حقوق المواطنين.
"سرّي" جداً"، "يمسّ بالأمن القومي"... العبارات المفضلة للسلطة
في الهند أقرّ قانون حرية الوصول إلى المعلومات، عام 1982، وبموجبه يحق لكل مواطن أن يطلب المعلومات من السلطات العامة، ويجب على السلطات الاستجابة خلال 30 يوماً، أو 48 ساعة إذا شكل الأمر خطراً على حياة شخص أو حريته، ولم تستثنِ إلا المعلومات التي تضر بالأمن القومي. كما أقر برلمان جنوب إفريقيا قانوناً، دخل حيز التنفيذ في مارس 2001، يعطي الحق لأي فرد بطلب سجلات معينة من الهيئات الحكومية دون إبداء مبررات، وعليها أن تلبي طلبه خلال 30 يوماً.
وفي بريطانيا أُقرّ قانون عام 2005، يعطي الحق للأفراد في طلب المعلومات من أكثر من 100.000 جهة حكومية، وذلك خلال مدة لا تتجاوز 20 يوماً، باستثناء الظروف المرتبطة بمعلومات يحتاج تجهيزها وقتاً أطول. ويتكلف طالب الحصول على المعلومات 600 جنيه استرليني بالنسبة للأجهزة الحكومية المركزية، و450 جنيهاً بالنسبة للهيئات تُضاف إليها تكلفة التصوير والبريد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...