قصد محمود مبنى الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية حيث التقى عنصر الأمن، فأبرز هويته الشخصية، وعرّف عن نفسه بأنه باحث في العلاقات المصرية الإسرائيلية، وأخبره بأنه أتى ليطّلع على وثائق تاريخية يسمح قانون الوثائق بالإطلاع عليها. أنصت العنصر الأمني إليه باهتمام شديد، وأجابه "ممنوع الدخول".
على كورنيش النيل، في منطقة "رملة بولاق"، في العاصمة المصرية القاهرة، تقع بناية ضخمة مرّ على إنشائها 25 عاماً، هي مقر "الدار". على بابها سمع محمود تبريرات رجل الأمن، الذي أخبره أنه للدخول إلى الدار، لا بد من تقديم طلب إلى الأمن القومي يضم البيانات لمقدم الطلب وموضوع البحث وأهميته ومبرراته، ثم يخضع للفحص الأمني هو وموضوعه، ولا يمكن الدخول قبل الحصول على هذه الموافقة.
ما هي "الدار"؟
عام 1828، قرر محمد علي باشا إنشاء "الدفترخانة" في منطقة القلعة في القاهرة مركزاً لحفظ الوثائق والسجلات، وهو من أقدم دور الوثائق في العالم العربي. ثم تغير اسم المركز في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني (1892 – 1914)، إلى دار المحفوظات العمومية. وعام 1932، أُنشئ قسم المحفوظات التاريخية في قصر عابدين ومهمته جمع الوثائق الخاصة بأسرة محمد علي. ثم مع قيام ثورة يوليو 1952، أصبح من الضروري استحداث دار الوثائق التاريخية القومية بشكلها الحالي، وصارت تضم ذاكرة المؤسسات المصرية منذ 900 عام.
تجمع الدار وثائق تبدأ من العصور الفاطمية والمملوكية والأيوبية والعثمانية. وتضم وثائق المحاكم العثمانية، وهي مجموعة أرشيفية ضخمة، بالإضافة إلى وثائق الوزارات المختلفة، والدواوين، والهيئات التي أنشأها محمد علي باشا، مؤسس الدولة الحديثة، بحسب الباحث الفني في أرشيف الوزارات السيادية في دار الوثائق القومية سابقاً الدكتور عصام غريب. وتؤول وثائق كل مؤسسة حكومية في مصر بموجب القانون إلى الدار بعد مرور 50 عاماً على صدورها. ولذلك، هي تمثل ذاكرة المؤسسات ونشاطاتها التجارية والزراعية والهندسية".
الهاجس الأمني
أكد رئيس مجلس إدارة دار الكتب والوثائق القومية الدكتور شريف كامل شاهين أنه "قبل الإطلاع على الوثائق، هناك موافقة أمنية يجب أن يحصل عليها الباحث".
"كيف لي أن أتوجه إلى جهاز أمني لأطلب منه تصريحاً بالإطلاع على وثائق هي متاحة للجميع بموجب القانون؟"، قال لرصيف22 الرئيس التنفيذي لإحدى المؤسسات الثقافية، والمتخصص في العلاقات المصرية الإسرائيلية محمود عبده. وأضاف: "الأزمة ليست في المنع الأمني فقط. هي تكمن في وضع عبارة سري جداً على الوثائق. وحين أطلب أحياناً وثائق معينة يقابلني الموظف المسؤول بعبارة "غير متاح" فتغلق أمامي جميع سبل الوصول إلى المعلومة".
أحد العاملين سابقاً في جهاز أمني، وكان قد انتُدب للعمل في دار الوثائق القومية، قال: "أنا أحد الذين شددوا على ضرورة الفحص الأمني للباحثين. المسألة خطيرة، ففي مرات كثيرة ضبطت صوراً بحوزة باحثين التقطوها بكاميرات مخفية ومنها وثائق خاصة بالعلاقات المصرية الإسرائيلية".
شروط تعجيزية
أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية والمختص بفترة محمد علي، الدكتور خالد فهمي، تولّى رئاسة دار الوثائق القومية عام 2013 مدة قصيرة. كتب في مقال: "المشكلة أن لدى دار الوثائق القومية شروطاً تعجيزية تمنع الناس، عملياً، من استخدامها. فالدار تشترط الحصول على موافقة من "الأمن"، وهذه الموافقة تشمل الموضوع والشخص الذي يقوم بالبحث. وحتى بعد الحصول عليها، وأعدادها في تناقص خلال السنوات الماضية ويمكن أن تستغرق ثلاثة أشهر، تأتي مشروطة بالبحث في ثلاث وحدات أرشيفية فقط (من نحو 400)".
ورأى أن "النتيجة الطبيعية للقبضة الأمنية على دار الوثائق القومية، هي أن الدار التي تحوي ملايين الوثائق يتردد إليها في اليوم الواحد نحو عشرة أشخاص، كلهم أكاديميون، ونصفهم طلبة أجانب يحضّرون رسائل ماجستير ودكتوراه".
استغلال
وعن الطريقة التي يتم التحري فيها عن الباحث، قال الدكتور شاهين: "يتم فحص الباحث ووضعه الأمني، وهل هو صادق في مسألة البحث أم لا"، مضيفاً أن "هنالك مشاكل تقابلنا. فالبعض يحصل على نسخ مصورة ثم يستغلها في أعمال تجارية، بالإضافة إلى مشكلات متعلقة بخريطة الدولة، والخرائط القديمة. على سبيل المثال، هنالك مشكلة متعلقة بإنشاء جامعة الدول العربية والإرهاصات الأولى في شأنها، وهنالك أيضاً خلافات بين بعض الدول حول من هو صاحب الفكرة. لذلك فإن الإطلاع على هذه الوثائق سيتسبب بمشاكل".
وتابع: "الباحث غير ملزم بأخذ الموافقة الأمنية بنفسه. هو يتقدم بالطلب إلى الدار، وهي ترسل إلى الجهات الأمنية بيانات الباحث، والمبررات التي يسوقها للبحث، وأهميته"، لافتاً إلى أن مدة الموافقة قد تستغرق نحو ثلاثة أشهر، وفي حالة الموافقة تسمح له الدار بالإطلاع على الوثائق والحصول على نسخ مصورة أو الإطلاع بدون الحصول على النسخ المصورة. ويوضح أن "الرفض غالباً ما يأتي بسبب تحفظات على المضمون الذي قد يتسبب بمشاكل بين الدول، فنحن لسنا بهذه الدرجة من الانفتاح في ما يتعلق بإتاحة المضمون الوثائقي".
وكان الدكتور عصام الغريب، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، واحداً من الذين تقدموا ببلاغات إلى جهات قضائية تطالب بالتحقيق في الأموال الطائلة التي أنفقت على مشاريع الحفظ الرقمي للوثائق في عقب ثورة 25 يناير. وقال لرصيف22 إن "هنالك إشكاليات تواجه الباحثين الذين يقصدون دار الوثائق القومية تتعلق بإتاحة المعلومات، وهي مشكلة لا تنفصل عن المناخ العام الذي تعيشه مصر، وحالة الثقافة والبحث العلمي والمناخ السياسي والاقتصادي، ولهذا انعكاسات كثيرة على الأرشيف أيضاً".
وأضاف أن "اختيار الموضوع نفسه يخضع للتحريات. فعلى سبيل المثال، هنالك عشرات الباحثين الذين حاولوا البحث في ملف اليهود المصريين إلا أنهم كانوا يخضعون لتحريات مشددة، وفي النهاية يمنعون من الإطلاع برغم من أن القانون يتيح لهم ذلك".
وجزم أن "بعض الوثائق يتم تحييدها أو تمييزها باعتبار أنها تمس الأمن القومي، وهذا أمر يحدث في دول مثل بريطانيا التي تمنع وثائق خاصة بالقضية الفلسطينية، بسبب دورها في دعم المشروع الإسرائيلي. ولكن في مصر مَن الذي يحدد هذا المنع؟ هل هي لجنة علمية؟ أم أن الموضوع يخضع للأهواء الشخصية؟ علماً أن القانون يتيح الاطلاع على الوثائق بعد مضيّ نحو 40 عاماً".
وقال: "أصبحت المسألة بمنتهى الخطورة، لأن ذلك يعني تقييد المعرفة والثقافة والانفتاح العلمي والبحثي، وهذا ما ينعكس على تقدمه ويضطر الباحث إلى اللجوء إلى مصادر أجنبية، مثل الأرشيفين البريطاني والعبري وهي مسألة شائنة في حق الدولة، وتطرح السؤال عن طبيعة ووظيفة الأرشيف الذي يقوم على عنصرين هما: الحفظ والإتاحة للجمهور والباحثين وفقاً لقوانين معينة.
سرقات وتلف
وأشار محمود عبده إلى أن المشكلة لا تنحصر في مسألة الحجب بل تمتد إلى تعرض الوثائق للتلف والسرقة، متحدثاً عن أن "هنالك دولاً خليجية اشترت وثائق، منها وثائق حملة محمد علي على الوهابيين في السعودية، ومراسلات بين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والكويت بخط اليد".
ولفت الغريب إلى أن مشكلة كبيرة في نظام الحفظ. وقال: "فحتى فترة قريبة، لم تكن الوثائق مفهرسة كما أن عمليات التأمين غير جيّدة، ولم يكن هناك سجل للجرد، ولا يُعرف هل حدثت سرقات أم لا".
ويعترف شاهين بأن المسألة ليست في قانون حرية تداول المعلومات الذي لم يتم إصداره حتى الآن، بل تتجاوز ذلك إلى الهاجس الأمني. وقال إن "هنالك خمس مسودات لقانون حرية تداول لمعلومات صدرت حتى الآن، ولكن لا يزال الهاجس الأمني هو المسيطر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون