ربما يظن القارئ أن المصريين القدماء عاشوا حفاة، ولم يعرفوا الأحذية، إلا أن التجول في معرض "خطوات عبر الزمن: الأحذية في مصر القديمة"، الذي يستمر حتى نهاية ديسمبر في الحجرة 44، في المتحف المصري في القاهرة، وهو تعاون بين الباحث الهولندي وخبير الأحذية الأثرية أندريه فيلدميير وسليمة إكرام رئيسة وحدة علم المصريات في الجامعة الأمريكية في القاهرة، يثبت عكس ذلك. فالمصريون القدماء عرفوا الأحذية المفتوحة والمغلقة أيضاً.
يظل واقع الحياة اليومية للفراعنة غير مفهوم تماماً، بسبب التركيز على المعابد والمقابر، كما أن الكثير من متعلقات الحياة اليومية تعرض في المتاحف من دون أي مصادر، وهذا ما يجعلها أقل عرضة للتحليل. لكن معرفة كيف تعامل المصريون مثلاً مع الأحذية كجزء من حياتهم وكجزء للتعبير عن هويتهم هو أمر لافت. فمدى جودة صناعة الأحذية عند الفراعنة يدل على اختلاف الطبقة الاجتماعية، حتى أن الصنادل كانت تعد من أعطيات الفرعون لرجال المعبد في عصر الدولة الحديثة، وحتى الآن ليس معروفاً تماماً ما الذي يجعل للصندل هذه القيمة الرمزية!
الملك حافٍ والصندل محمول
الصندل هو الأقدم والأكثر شيوعاً في تاريخ الأحذية، إلا أن العثور على صنادل فى المقابر من عصور ما قبل الأسرات (5500-2687 ق.م.) نادر جداً. ويعتقد فيلدميير في كتابه "الأحذية في مصر القديمة"، الذي يرصد فيه عملية فحص 32 قطعة حذاء أثرية، ليقيس مدى تطور شكل وصناعة الأحذية، أن انتعال هذه الصنادل كان مقتصراً على الطبقة العليا من المجتمع، ويمكن الاستدلال على ذلك من لوحة نارمر من 3000 عام ق.م، يظهر فيها الملك الفرعون نارمر أو كما نعرفه (مينا موحد القطرين) حافياً ممسكاً برأس أسير، وفي الخلفية أحد الخدم يحمل للفرعون الصندل الخاص به. كانت الألياف النباتية مثل سعف النخيل والحلفا وأوراق البردى، هي مواد الإنتاج الأساسية للصنادل في تلك الفترة.
الفرعون نارمر حافياً ممسكاً برأس أسير، وفي الخلفية خادم يحمل للفرعون الصندل الخاص به
وعلى الرغم من القيمة الخاصة للصندل عند الفراعنة، فإن الأحذية في مصر القديمة تنوعت بين بسيطة غير مزينة ومفتوحة وبين أحذية أنيقة ومغلقة، ولم يكن هناك اختلاف بين الأحذية عند النساء والرجال سوى المقاسات، حتى أن الأطفال كانوا ينتعلون صنادل مصغرة عن الصورة الأصلية، فلم يعرف التاريخ الأحذية المصنوعة خصيصاً للأطفال إلا في القرن العشرين.
بدأت ثقافة الأحذية تتغير في مصر في مطلع عصور الدولة الوسطى، فمع زيادة التواصل الخارجي واحتلال مصر من الهكسوس، درج استخدام العربات الحربية، وظهرت الأحذية التي تغطي جانبي القدم، وتنوعت طرق تزيينها من الخرز والرسوم النباتية إلى استخدام الذهب والأحجار الكريمة.
يقول فيلدميير إن معظم قاعدة البيانات الموجودة لمشروع الأحذية في مصر القديمة تعود إلى وقت الدولة الحديثة (1564-656 ق.م)، وذلك لازدياد أعداد الناس التي تنتعل أحذية، حتى أن توت عنخ آمون دفن معه 80 حذاءً وصندلاً. وتعتبر الأحذية الملكية المفتوحة للملك الصغير خاصة جداً، فبغض النظر عن الذهب، إن الأقفال التي كانت فيها، لم تكن في أي أحذية مصرية قديمة أخرى، وقد اقترح البعض أن يكون لها علاقة باحتمال أن قدم الملك كانت مشوهة، غير أنه لا يمكن إثبات هذا بسبب نقص وجود أي مواد مقارنة.
الأحذية لسحق الأعداء
تعطينا مقبرة توت عنخ آمون نظرة فريدة على الأحذية الملكية، فهناك زوج من الصنادل لا يترك أي شك حول القيمة الرمزية التي كانت تتمتع بها الأحذية، وهو مصنوع من الخشب، وتم تزيينه بالزخارف المصنوعة من اللحاء والجلد، وأوراق الذهب.
صندل توت عنخ آمون
ويمكن مشاهدة أسير نوبي وأسير آسيوي إلى جانب الأقواس التسع، التي تمثل أعداء مصر التقليديين في ذلك الوقت، وهذا ما يظهر رمزية مبكرة لسحق المصريين أعداءهم بالأحذية.
مقالات أخرى
"تحية لمن سألوا عني": رسائل السجناء المهربة في معرض فني
"عبادة" الكعب العالي
وفي نهاية عصر الدولة الحديثة، عرف المصريون الحذاء المغلق، الذي كان شائعاً في مصر الفرعونية، على الرغم من أنها لم يتم تصويرها على جدران المقابر والمعابد، وكان الجلد المستخدم في صنع الأحذية باللونين الأحمر والأخضر. لم يعرف المصريون دباغة الجلود كالرومان، بل كانوا يدهنونها بالزيت فقط، وقد ساعدتهم حرارة المناخ وجفافه على ذلك.
كما تمتعت الحدود المصرية بخصوصياتها، ففي الجنوب حيث بلاد النوبة، قبل أن تغمر مياه بحيرة ناصر المواقع الأثرية بسبب بناء السد العالي، اكتشف الباحثون عدداً كبيراً من الأحذية النوبية، خصوصاً في منطقة قصر إبريم وفي جوار جبل "عدى". كان للأحذية النوبية أكثر من رباط، على غرار سكان شمال مصر، ومعظم الصنادل النوبية كانت مزينة جداً، حتى الأحذية المغلقة، وهذا ما يدل على أن الأغنياء فقط هم من كانوا يمتلكونها، ويريدون أن يظهروا طبقتهم الاجتماعية المختلفة، والتعبير عن ذلك بأحذيتهم.
وتشير النصوص إلى أن أعداد الصنادل التي كانت تطلبها المعابد كبيرة جداً (هناك بردية تذكر ما يزيد عن 18000 صندل). بينما يبدو أن الكهنة والجيش كانوا من المشترين الكبار للصنادل، لكن لم يتم تصوير الجنود وهم ينتعلون الصنادل.
وفي كثير من الأحيان، كانت الصنادل جزءاً من الأجور، وهناك نصوص واضحة تتعلق بالأسعار، فيرجح أن سعر زوج واحد من الأحذية 2 ديبن، وبالمقارنة: يكلف الحمار الواحد 30 ديبن، كما يتضح من نصوص مجموعة ر.ى. ديماريه ببرلين.
ويعتقد الفراعنة أن الأحذية الخشبية والحديدية بفضل السحر، تصلح للانتعال في الحياة الأخرى، ففي كتاب الموتى يحضر ذكر النصوص أن على المتوفي أن يكون قلبه طاهراً ونقياً وينتعل صندلاً أبيض، لذا كان الصندل يوضع فوق التابوت حتى يستطيع أن يعبر به المتوفي إلى العالم الآخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...