انتشرت في الآونة الأخيرة صور مواطنين عرب يضعون "الحذاء العسكري" على رؤوسهم. تزامنت تلك الصور مع أفول الربيع العربي وتسلم الإسلام السياسي ثم العسكر السلطة في مصر، والحرب الطويلة التي تدور رحاها في سوريا. وإذا كانت “بشائر الربيع” قد حملت حلم التغيير وطيّ صفحة الحكم العسكري، فها هي عودة العسكر إلى حكم مصر تقول إن تلك النسائم لم تفض إلى الجديد المأمول.
هذا التشاؤم ليس سببه عودة العسكر إلى التفرد بالحكم بالقوة، كما رأينا في الحالة المصرية، بل المزاج المتقلب لجماهير “الربيع العربي”. لقد أسدل الستار على شعارات إسقاط الحكم العسكري، حيث صدحت الحناجر "يسقط، يسقط حكم العسكر"، وعادت "الجماهير العربية" لترى في القوات العسكرية الخلاص المنشود جاعلة من أحذية عناصرها شعاراً للمرحلة، وذلك تحت مسميات التخلص من "الارهاب الإخواني" كما في الحالة المصرية أو من "الإرهاب التكفيري" كما في الحالة السورية.
رسالة مصر كانت مؤلمة. أتت من هناك حيث رفعت ثلاث كلمات “يسقط حكم العسكر” حناجر المصريين في مظاهرات عمت الساحات العامة. إنها رسالة تشير إلى تبدل كبير في الشعارات الربيعية، "الشعب يريد عودة العسكر". ما الصور التي عمت وسائل التواصل الاجتماعي، والتي ظهر فيها مواطنون يرفعون الأحذية العسكرية على رؤوسهم، إلا مؤشراً يزيد من هذه القناعة.
لم تسلم حتى رؤوس الأطفال من ثقل تلك الأحذية، فقد كانت ملفتة جداً تلك الصورة التي التقطت أمام مقر أكاديمية الشرطة قبل دقائق من بدء محاكمة الرئيس المعزول محمد مرسي، وتظهر فيها عائلة مصرية وضعت الحذاء العسكري على رأس طفلها في ذات الوقت الذي طالبت فيه جمهرة من المواطنين المشير عبد الفتاح السيسي بالترشح لرئاسة الجمهورية، وتنفيذ حكم الإعدام على مرسي وقيادة جماعة الإخوان!
أما الرسالة القادمة من سوريا فقد كانت عبارة عن صور لأشخاص ملأوا الحذاء عسكري بالورود ورفعوه فوق رؤوسهم، كما حصل في طرطوس مع السيدة الخمسينية، "أم يوسف"، التي لم تكتف برفعه فوق رأسها، بل قامت بتقبيله على الملأ. علقت إحدىصفحات التواصل الاجتماعي الموالية لنظام بشار الأسد على تلك الصورة بالقول: "إلى كل من لا يعرف معنى الشرف والكرامة، تعلموا من هذه السيدة كيف يكون حب الوطن… وتعلموا الشرف من هذا الحذاء العسكري، لتعرفوا أن البوط العسكري شرفنا وكرامتنا ولولاه لا وجود لنا".
وفي سوريا أيضاً ارتفع نصب تذكاري على مدخل مدينة اللاذقية وحمل اسم "خبطة قدمكم" وهو عبارة عن مجسمات لحذاء (الجندي العربي السوري) وخوذته ورصاصته، حيث نقلت وكالة الأنباء السورية الحدث واصفة المجسم بكونه "يعكس إيمان الشعب السوري".
الرسالة اللبنانية كانت مختلفة. فعلى إثر "أحداث منطقة عبرا" في الجنوب اللبناني، حيث قام بعض أنصار "أحمد الأسير" بالاعتداء على الجيش اللبناني موقعين قتلى وجرحى في صفوفه، استبدل بعض الناشطين اللبنانيين على مواقع التواصل الاجتماعي صور "البروفيل" الخاصة بهم على "الفيسبوك" بصورة لحذاء عسكري كُتب عليها "ليحكم".
تتعدد المشاهد وحالات "التماهي" مع العسكر انطلاقاً من اتخاذ الحذاء شعاراً للمرحلة. إلا أن هذا لم يلغ وجود أصوات معارضة ومنتقدة وصلت إلى حد اعتبار الأمر نوعاً من المهانة والخضوع والانحطاط. ففي مصر برزت على وسائل التواصل الاجتماعي صور وتعليقات تندد بالحذاء العسكري. وأظهرت إحداها شخصاً يحضن الحذاء وكتب عليها "عندما تعشق البياده" وصورة أخرى، أظهرت حذاء عسكرياً علا صندوق اقتراع، لم تخل من رمزية الإشارة إلى سحق أصوات المصريين تحت أقدام العسكر، وقد كتب عليها "الحكاية مش إخوان، الحكاية الشعب اتهان".
أما المعارضون السوريون فقد وصفواالصور السابقة بأنها تشكل "قمة الانحطاط الإنساني" وبأن "النصب التذكاري" يمثل الحذاء العسكري الذي حكم السوريين لما يزيد عن 40 عاماً، والرصاصة التي بجانبه تقتل السوريين منذ أكثر من سنتين بلا توقف.
لكن، وتلافياً للدخول في مسألة تمجيد العسكر أو "شيطنتهم" كما في المشاهد الثلاثة السابقة، ما يهمنا هو ما تمثله تلك الصور "برمزيتها"، فهي في الحقيقة تختصر الجندي وتقوم بتمثيله عبر حذائه لا قبعته مثلاً، وتمثل أيضاً نوعاً من "تماهي" المواطن مع الحذاء العسكري بما يمثله من بطش وقوة سحق، ناهيك عن أن ضخامة الحذاء وجبروته يرمزان إلى السلطة التي ما زالت تشكل في الوعي العربي الجمعي القوة القاهرة القامعة.
غني عن البيان أن هكذا نظرة للسلطة لا ترى في هذه الأخيرة سوى الناحية القمعية، ولا تنظر إليها كقوة ناظمة للعلاقات الاجتماعية ولعلاقة المواطن مع الدولة ومؤسساتها. لكن إذا كان أصحاب حملات تأييد العسكر يريدون إظهار مسيرات رفع الأحذية العسكرية "عفوية"، ومعبرة عن غضب الشعوب من التطرف الإسلامي، فهم إنما اختصروا السلطة بأداة واحدة من أدواتها، أي العسكر، بهدف الاستعانة بهم لقمع بقية الأطراف المختلفة. وهم يريدون إفهامنا أن الشعب يختار حكم للعسكر ويثق به، ليس فقط كحامٍ لحدود الوطن، بل كحاكم مطلق.
لا تكمن رمزية الصورة المصرية بتمثيلها لرغبة البقاء تحت حكم عسكري ورفع المشير السيسي إلى سدة الرئاسة، بل التشفي والقضاء على جزء من الشعب، أي الإخوان المسلمين. أما في سوريا، فقد ذهب "التماهي" مع الحذاء العسكري من قبل مناصري نظام الأسد، إلى حد التماهي العاطفي بأبعاد لا تخلو من الرجولة حيث أن اعتلاء الحذاء الرؤوس يماثل "حب الوطن" و"الشرف" و"الكرامة" و"علة وجود" الشعب السوري، كما بدا في التعليق.
ربما تختلف حالة الناشطين اللبنانيين شكلياً عن أحوال السوريين والمصريين، إذ استعيض عن وضع الحذاء العسكري على الرأس بوضعه كصور خاصة في العالم الافتراضي، إلا أن المضمون واحد: الرغبة بالخضوع للعسكر، على اعتبار الأخير غير مدنس بمفاسد السياسة.
لقد كشفت تلك الصور عن عقم تعاني منه غالبية الشعوب العربية، فهي لم ترق بعد للوصول إلى قيم الحداثة والمطالبة بالعيش في ظل أنظمة حكم مدنية. ربما تجاهل منظمو "حملات تأييد العسكر" هزلية ما أقدموا عليه، في تحويلهم الحذاء إلى قبعة "ينتعلها" الرأس عوضاً عن القدم، وفي جعل الأحذية أوسمة شرف في حب الوطن لا تشرّف من عانى من اضطهاد العسكر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...