شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
مراجعة لرواية

مراجعة لرواية "حي الأميركان"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 5 أغسطس 201605:25 م

مباشرة ودون الكثير من المقدمات، يكشف الروائي جبور الدويهي عن الحدث الذي سيحمل السرد ويدفعه إلى الأمام في روايته "حيّ الأميركان": الاختفاء المفاجئ لـ"إسماعيل"، الإبن الأكبر لعائلة بلال محسن.

لكن هذا الكشف السريع لا يمنع الكاتب من الاحتفاء بالتفاصيل الدقيقة لكل شيء.

يبدأ بتركيب الأحداث، حدثاً وراء حدث، ضمن حبكة تعتمد عنصري التشويق والغموض، ليبني روايته بكثير من الحرفية، مولياً الحكاية المكانة الأولى مقابل اهتمام أقل باللغة التي أرادها بسيطة وبعيدة عن التزيين والتنميق.

يختار الكاتب زماناً قصيراً لأحداث روايته، كما يختار مكاناً محدداً لينطلق منه الحدث، هو حي الأميركان "عُرف بحيّ الأميركان نسبة إلى المدرسة الإنجيلية المهجورة التي تمركز في مبانيها المتهالكة طوال سنوات ما يسمّى فرع المخابرات الجوية المرهوبة الجانب".

هذا الاختيار لا يلبث أن يتسع ويكبر ليصبح الزمان ممتداً ما بين ثلاثينيات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، ويصبح المكان ممتداً على مساحة جغرافية تصل إلى العراق وفرنسا، وذلك من خلال استخدام الكاتب لتقنية الاسترجاع في عرض ماضي شخصياته وحيواتها.

التقنية التي أتاحت للكاتب تحقيق هدفه في اختصار تاريخ مدينته "طرابلس"، بناسها وسكانها الطيبين الذين تحولوا إلى العنف والإرهاب بعد الفقر والإهمال والتهميش الذي عانوه، فيسرد أولاً كيف بدأ الناس يتحولون إلى التشدد الديني والانغلاق، من خلال حكاية "بلال محسن" الذي أراد المشاركة حين كان شاباً في العملية الثأرية لقتل "الشيخ عماد"، أمير باب الحديد، فقُتل الجميع وبقي هو حياً، ليتابع حياته وهو يحمل وزر نجاته "لا تكتمل رواية الوقائع الجسام من دون خائن، وبلال محسن هو من تحوم حوله الشبهة... اتهموه بأنه هرب، أنه خاف، أنه وشى".

في الطرف المقابل، يرصد الكاتب الأحوال الاجتماعية لطبقة أغنياء المدينة ووجهائها، من خلال شخصية "عبد الكريم العزام" سليل الأسرة النافذة، التي تتقاطع حياتها مع حياة عائلة "محسن"، وخاصة إثر عودة "عبد الكريم" من باريس محطم الفؤاد، بعد أن عاش قصة عاطفية مع راقصة صربية هجرته تاركة له رسالة وداعية "انتهت حياتي هنا في باريس، لا رقص للحوامل ولا للأمهات، لا أدري لماذا اخترتك، أحطم قلبي وقلبك وأرحل، لا تبحث عني ولا تلحق بي".

ما بين الطرفين المتناقضين، لا يهدأ "الدويهي" قبل أن يكمل سرد التاريخ بكل مراراته، فالأغنياء الذين لا يتذكرون الحيّ إلا وقت الانتخابات، يستمرون على أحوالهم نفسها، فيما الفقراء الذين تحولوا إلى التشدد الديني والانغلاق، لا يلبثون أن ينخرطوا في جماعات متطرفة، ترسلهم لتنفيذ عمليات انتحارية، كما حصل مع "إسماعيل" الذي تكشف عنه ألغاز الرواية حين نعرف أنه في العراق، بعد أن أرسلته جمعية "الهداية الإسلامية" هناك لتنفيذ عملية.

لا يدلي "الدويهي" بدلوه في القضية الشائكة، يبقى على الحياد. لا يدين "إسماعيل" ولا يؤيده، يصور حياته، ويترك للقارئ أن يتعاطف معه أو ينبذه. يصور اللحظة المصيرية في حياته، اللحظة التي ينبغي عليه فيها تفجير الحزام الناسف، يدخل أعماقه، يسبرها، وبتدفق ينقل مشاعره وأفكاره وأبعاده الإنسانية. لعلَّ هذا المشهد الذي يأخذ حوالي صفحتين، هو من أعمق ما يمكن أن نقرأه عن تداعيات النفس الإنسانية حين تكون في لحظة مصيرية كهذه.

جبور الدويهي كاتب وروائي لبناني (1949) ترجمت رواياته إلى عدد من اللغات، من بينها الإنكليزية، الفرنسية، الألمانية، الإيطالية والتركية. عمل أستاذاً للأدب الفرنسي في الجامعة اللبنانية، وقام بإصدار مجموعة قصصية واحدة "الموت بين الأهل نعاس"، وقصة للصغار بالفرنسية "روح الغابة"، إضافة إلى ست روايات، هي "اعتدال الخريف" التي حازت على جائزة أفضل عمل مترجم من جامعة أركنساس في الولايات المتحدة، "ريا النهر"، "عين وردة"، "مطر حزيران" التي اختيرت ضمن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2008، ثم توالت نجاحاته بإصدار "شريد المنازل" التي اختيرت هي الأخرى ضمن القائمة القصيرة للجائزة نفسها عام 2012، كما حازت على جائزة حنا واكيم للرواية اللبنانية 2011، وجائزة "الأدب العربي الشاب" في باريس 2013، التي تمنح للمرة الأولى. ترجمت رواياته إلى عدد من اللغات، من بينها الإنكليزية، الفرنسية، الألمانية، الإيطالية والتركية.

أبرز النقاط التي تميز روايات جبور الدويهي هو ابتعاده عن الزخرفة الكلامية، لصالح محكي بسيط يهتم بالحدث ورصد انفعالات النفس الإنسانية بعمق وكثافة، كما يتميز بقدرته على التقاط التفاصيل البسيطة التي تشكّل معاشنا اليومي، فتبدو رواياته صورة عن حياتنا بعد تكبيرها بمجهر قلمه، كما يحسب له ابتعاده عن شرك النمطية في معالجة شخصياته وتوجهاتها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image