شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
مراجعة رواية

مراجعة رواية "يا دمشق وداعاً - فسيفساء التمرد”

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 28 مايو 201604:56 م

تعاود "غادة السمّان" في روايتها الجديدة "يا دمشق وداعاً - فسيفساء التمرد" خلق مدينة دمشق بشوارعها وأزقتها ومطاعمها وفنادقها وحدائقها، كما كانت في الستينيات من القرن الماضي. إننا إزاء عملية استرجاع لذاكرة المدينة التي شوّهها التحديث، لكن هذا الاسترجاع يميّزه أن من تقوم به عاشقة للمدينة وتفاصيلها، لذلك فإن استدعاء المكان لا يحضر بوصفه استدعاءً لتضاريس جغرافية، بل هو أشبه بعملية ترك الذكريات تسيل فتمتد وتتوسع وتبني من جديد الأمكنة والأزمنة والأشخاص والحوادث، كما اختزنتها ذاكرة صبية في مطلع عمرها.

هذا العشق لدمشق هو واحد من محورين يراوح بينهما السرد، وأما المحور الثاني فهو "التمرد" بما هو حالة يفرضها الإيمان بالحرية، والحرية عند "السمّان" هي مفهوم مطلق ينسحب على الشخصي، والديني، والاجتماعي، والسياسي و... لذلك فإن الإهداء الذي تسجله الكاتبة في بداية الرواية يختزل ببراعة كل ما أرادت قوله في نصها الجديد، وهو يكثّف المحورين اللذين تدور في فلكهما الرواية، "أهدي هذه الرواية، إلى مدينتي الأم دمشق التي غادرتها ولم تغادرني. يوم رحيلي صرخت في وجهي: "أمطري حيث شئت فخراجك عندي". وإلى الحبيب الوحيد الذي لم أخنه يوماً واسمه: الحرية، الحرية، الحرية".

تتابع "السمّان" في روايتها هذه، سيرة "زين الخيّال" بطلة روايتها "الرواية المستحيلة: فسيفساء دمشقية"، والتي تلتقي في كثير من مفاصلها وحكاياتها مع سيرة "غادة السمّان" نفسها. فرغم محاولاتها في نفي ذلك، يلمس المتابع لها ولكتاباتها مدى قرب "زين" وأحداث حياتها من "غادة" والتجارب التي عاشتها.

مقالات أخرى:

تعرفوا على الدول العربية عبر رواياتها

مراجعة لرواية "مدن اليمام”

يبدأ هذا الجزء بقرارين مصيريين اتخذتهما "زين" وقد أصبحت في الثمانية عشرة من عمرها، الأول هو أن تجهض حملها بشكل سري، والثاني هو أن تحصل على الطلاق من زوجها، رغم ما يعتري ذلك من مخالفة لقوانين العائلة والمجتمع في ذلك الوقت، فـ"بنت الأصل" لا يجوز أن تطلب الطلاق، بل تصبر على كل ما يزعجها. لكن "زين" المتمردة، لا يهمّها كل ذلك، ما يهمّها هو أن تبقى منسجمة مع اقتناعاتها وحريتها.

تصوّر الكاتبة البيئة المنغلقة التي نشأت فيها، ومدى معاناة الأنثى في البيئات المحافظة، إذ إن كل تصرف يخضع للمراقبة والتدقيق، وحتى التلفظ بكلمات معيّنة كان ممنوعاً على الأنثى، "يفتح الباب جارنا الذي يكرهني وينظر إلي بعدوانية ثم يطبق الباب دونما تحية. إنه يخاف من تأثيري السلبي على أخته ناجية المذعنة (...) أحدّثها عن الحرية، الكلمة المحرّمة التي سمعني أتفوه بها وتمنى إحراق لساني بجمرة كما فعلت جارتنا في زقاق الياسمين حين وضعت على لسان ابنتها جمرة لأن المسكينة تلفظت بكلمة حب”.

تشير الرواية إلى الخراب الذي حلّ في سورية بعد وصول حزب البعث إلى السلطة، واستفراده بالحكم، وما جرّ ذلك من ويلات على البلد، إذ أصبحت الصلاحيات واسعة لدى فئة قليلة من الناس دون أي محاسبة أو مسؤولية. وينعكس هذا بصورة مباشرة على "زين" التي تمضي في تمردها، وتنشر كتابها الأول في بيروت، ثم تقرر متابعة دراستها هناك، لكنها تضطر حسب قوانين ذلك الزمان إلى الحصول على إذن من فرع المخابرات للسفر، فيستغل الضابط المسؤول هذه الفرصة، ويطلب منها قضاء "سهرة" في مكتبه. ترفض "زين" ذلك، مما يثيره ويدفعه إلى تلفيق تهمة لها وتعميم اسمها على الحدود كي لا تستطيع المغادرة، وهنا يساندها الأصدقاء ويدبّرون لها خطة محكمة للوصول إلى بيروت.

تصف "السمّان" بيروت الستينيات، بيروت التحرر والانفتاح على الآخر، بيروت التي كانت في أوج تألقها الفكري والثقافي، وكانت ملتقى للأدباء والمفكرين. وكما أعادت خلق "دمشق" ذلك الزمان، هكذا تعيد خلق "بيروت" ذلك الزمان، فتصف شوارعها وتذكر أسماء مقاهيها وفنادقها، وتضيف هوامش تذكر فيها الأسماء الجديدة لهذه الأماكن الآن، أو تذكر أنها لم تعد موجودة بعد أن دمرتها الحرب أو التقدّم العمراني.

لا يخفى على القارئ أن عشق "السمّان" لدمشق لم يمنعها من عشق "بيروت" أيضاً، خاصة أنها عاشت فيها فترة طويلة، وكتبت عن الحرب الأهلية بألم شديد، في روايتين: "بيروت 75"، و"كوابيس بيروت”.

ولعلّ أقسى ما في هذه الرواية هو الفصل المعنون بـ"على رؤوس أصابع دموعي"، إذ تصف "زين" كيف توفي والدها أثناء زيارته لها، بسكتة قلبية، وهو الذي دعمها وساندها ووقف إلى جانبها في كل خياراتها، فكان رحيله بمثابة سكين في قلبها، وما زاد في قسوة هذا الرحيل أنها لم تستطع مرافقته إلى دمشق حيث سيدفن، فلو اجتازت الحدود ستقبض عليها المخابرات السورية. هكذا تقف على الحدود، تراقب السيارة التي تقل جسد والدها، وتنشد نشيد الحزن الأبدي، "مهما طرت فوق القارات، أنا صخرة في قاسيون وسأعود. أنا صخرة اقتلعوها من قاسيون تهيم في الفضاء بلا مدار. لا لست صخرة، أنا حبة تراب من قاسيون تذروها رياحٌ مظلمة. أنا هشة وحزينة، وحيدة ومجنونة. وها أنا أنتحب وأكره سماع صوتي وأنا أبكي".

في "يا دمشق وداعاً" تودّع "السمّان" مدينتها الأثيرة، بعد أن "تركت قلبها كله في هذا الكتاب"، كما قال الشاعر الإسباني "لوركا" ذات يوم، ثم توسّع فضاءات التمرد وتنطلق فيها.

غادة السمّان كاتبة سورية من مواليد دمشق 1942. صدر لها أكثر من أربعين كتاباً في مختلف مجالات الأدب: الشعر، القصة القصيرة، المقالات، المحاورات الأدبية، أدب الرحلات، الرواية. ومن بين هذه الكتب: "ليل الغرباء"، "ليلة المليار"، "القبيلة تستجوب القتيلة"، "ستأتي الصبية لتعاتبك"، "أعلنت عليك الحب"، "الرقص مع البوم"، و"الأعماق المحتلة". كذلك صدر عن أدبها 18 كتاباً نقدياً. وترجمت بعض أعمالها إلى 15 لغة، منها الإنكليزية والفرنسية والألمانية.

الناشر: منشورات غادة السمّان/ بيروت

عدد الصفحات: 204 الطبعة الأولى: 2015 يمكن شراء الرواية على موقع نيل وفرات أوعلى موقع متجر الكتب العربية جملون

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image