يرسم أحمد شوقي علي في روايته الأولى مكاناً غرائبياً يطلق عليه اسم "أرض الجوافة"، وهي جنائن كثيرة، هجرها الناس على مرتين، ولم يبقَ فيها إلا الجوافة و"غريب"، الإنسان الذي تحوّل إلى عفريت، ويحاول أن يخلق "جنية الأحلام"، لتستمع إلى حكاياته وتؤنس وحدته بعد أن فقد محبوبته، وصارت حكاياته حزينة.
"آه لو لم نفترق! لو لم تختفِ! لو لم يأت الصباح فأتحوّل عفريتاً على غير إرادتي، لكانت هنا الآن، وكانت حكاياتي سعيدة، وما كنت أحكي وحيداً".
هكذا، يتخيّل غريب أن بإمكانه عبر سرد الحكايات أن يخلق الجنية، لكنه ينغمس في السرد، ويخلق حكايات أخرى سائراً على درب العبث، حتى "تجيء تلك الحكاية التي تلد فيها السماء جنية الأحلام". في حكاياته، يروي غريب عبر فصولٍ قصيرة قصة كامل الألثغ في حرف الكاف، والذي يلفظ اسمه "خامل"، حتى يصبح هذا الاسم لصيقاً به برغم نشاطه. وهو يعمل في شركة الإسمنت وحياته تسير بشكل طبيعي إلى أن يدبّر له عمّه عبد الصمد مكيدة، يضطر بسببها إلى الهروب مع عائلته والاستقرار في أرض جديدة هي "أرض الجوافة"، ليبدأوا حياةً جديدة ملأى بالمفارقات.
يكتب أحمد شوقي علي في روايته حكايات فريدة، يصنعها اعتماداً على الحكايات الشعبية وأساطير الخلق، من دون أن يأخذها حرفياً، بل يحاول عجنها مع رؤيته الخاصة، وفهمه للعالم، وإعادة إنتاجها بصورة جديدة لا تبقي من الأصل إلا خيالاتٍ شفيفة، والأهم أنها تسقط عنه قداسته، وتميل إلى أنسنته وحبكه مع تفاصيل الحياة اليومية العادية.
لا تسير الرواية وفق خط زمني صاعد، بل وفق حركة دائرية تلتف حول نفسها، يسرد من خلالها العفريت غريب، الذي سنكتشف في نهاية الرواية أنه ليس مجرد راوٍ فقط، سلسلة من الحكايات غير المترابطة والتي لا يجمعها إلا أنها محطاتٌ في حياة أسرة كامل، وكيف استقروا في الأرض الجديدة وبنوا بيوتاً، وأحبوا وكرهوا وتزوجوا وأنجبوا.
وبرغم الحجم الصغير للرواية فإنها تمتد على ثلاثة أجيال، الأم مسعدة، الأرملة الحزينة التي لا ترضى من الدنيا إلا سعادة أولادها، لأن "دورها في الحياة أن تكون مُسعِدة، تسعد الآخرين وليست مُسعَدة"، والأبناء الأربعة "كامل"، و"إخلاص" و"سيدة"، و"سالم"، والأحفاد "راغب"، و"صلاح". ولكلٍّ من هؤلاء مفارقاته التي تنثر على امتداد النص جوّاً من المرح وخفة الظل، فتمنح الرواية متعةً إضافية، خصوصاً مع طرافة الأسماء التي يختارها لشخصياته، وطرافة العناوين التي يختارها لفصول روايته.
"بيت أبيها الشيخ "معزة"، يقع على الحدود بين الريف والمدينة، عند عصارات الزيتون، رئيسة أبداً لن تخبر أولادها عن الشيخ معزة شيئاً، غير أنه الشيخ "فقي" صاحب الكرامات، لكنها في غفلة من الزمن ستحكي لهم أنه كان لأبيها جارة يميل إليها، ولم تكن تبادله الميل نفسه، فمال إلى شجر الزيتون وأحضر منه حبّة مباركة، وقرأ عليها ما تيّسر من علمه، وأهداها لجارته حتى تأكلها فتنجذب إليه، لكن - وحتى يصير له اسم يليق به - لا تأكلها الجارة وتترك الزيتونة بجوار الشرفة، وكانت لها معزتان فأكلت إحداهما الزيتونة، ومنذ ذلك الحين والشيخ أينما ولّى تتبعه المعزة في ذيل جلبابه".
مقالات أخرى
أدب الخيال العلمي العربي مشروع مؤجل
سيرة فاضحة لهتلر وموسوليني بريشة رائد فن الكاريكاتور المصري "صاروخان"
ولع الكاتب بالحدوتة (الحكاية)، يتبدى جلياً في بعض مقاطع السرد التي تتسم بالتكرار، مع إضافة تفاصيل جديدة أو تغيير في بنيتها الأساسية مع إبقاء الإطار العام نفسه، كحكاية خطبة "سالم" لجارته "إكرام"، والحيلة التي نفّذوها كي يوافق والدها بعد أن رفض، أو حكاية ضرب "راغب" لأبيه بالحذاء التي رواها كل شخص وفق وجهة نظره، وغيرها من الحكايات الأخرى، التي تختلف باختلاف ناقل الخبر، أو الشاهد عليه. "أتدرون شيئاً؟... آه أسف للمقاطعة، لكن ما فات قد يكون قصة جيدة قد ترضي شغف محبٍّ للحكي، لكنها بالنسبة إليّ في منزلة الحَبّ من التبن (...) اعذروني إن شققت عليكم، سأحكي الحكاية مرة أخرى، مع وعدٍ بالإيجاز قدر الإمكان".
تبدو الرواية حتى القسم الأخير منها وكأنها روايتان منفصلتان، واحدة تحكي قصصاً عن عائلة "خامل" وأخرى تحكي عن عفريت يريد أن يخلق "جنية الأحلام"، لكنّ المحورين سيتداخلان ببراعة في القسم الأخير بعد أن يعاني خامل من اضطرابات في النوم، ويصف له أحد أصدقائه أن يجرّب كتابة رسالة يومية لربة الأحلام. الحل الذي سينفذّه خامل وسيوقعه في ورطة كبيرة بعد أن تعثر زوجته على الرسالة، وتظن أنها لعشيقته.
وبين حكايات تدور ملتفةً على نفسها وحكايات جديدة تنشأ، ومراوغة الكاتب الذي يستخدم كل الحيَل الممكنة من تقديم وتأخير وتعمية ليبقي القارئ مشدوداً، نصل إلى نهاية الرواية التي ستكشف لنا الكثير من الأشياء الغامضة.
أحمد شوقي علي كاتب وصحافي مصري من مواليد 1988، صدرت له مجموعة قصصية بعنوان "القطط ترسم الصور"، ورواية "حكايات الحسن والحزن" هي روايته الأولى. يعمل حالياً محرراً ثقافياً في مؤسسة الأهرام المصرية.
الناشر: دار الآداب/ بيروت
عدد الصفحات: 167
الطبعة الأولى: 2015
يمكن شراء الرواية من موقع نيل وفرات ومتجر جملون
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...