قبل نحو أسبوع، صُعق المواطنون الإسرائيليون المقيمون في تل أبيب عندما شاهدوا على إحدى الشاحنات إعلاناً يظهر فيه سكين طوله ثلاثة أمتار وهو يقطع حبة طماطم ضخمة. كان إعلاناً لأحد أنواع سكاكين المطبخ ولكن الإسرائيليين شعروا بأنهم هم حبّة الطماطم تلك.
كان توقيت الإعلان المذكور سيئاً جداً، فقد أتى في وقت بات السكين سلاح الفلسطينيين الأساسي للاعتراض على عقود من السياسات الإسرائيلية التمييزية بحقهم. فمنذ الثالث من الشهر الجاري، راح يتكرّر أسلوب اعتراضي جديد قوامه قتل إسرائيليين بالسكين.غاب السلام فكان السكّين
لجوء الفلسطينيين إلى هذا الشكل الجديد في الاعتراض هو بلا أدنى شك نتيجة لعقم المسار السياسي وللتعنّت الإسرائيلي الذي عبّرت عنه بوقاحة وزيرة القضاء الإسرائلية إيليت شاكيد قبل أيام بقولها إنه "لا يوجد شيء اسمه دولة فلسطين ولن تكون".
يشعر الفلسطينيون بغياب الأفق أمام أي حلّ سياسي وبأن معاناتهم المستمرة والتمييز الذي يتعرّضون له يومياً لن ينتهيا. في القدس، يعيشون يومياً هاجس خسارة منازلهم أو متاجرهم بسبب قرار إداري تعسّفي أو بسبب عدم قدرتهم على دفع الضرائب الباهظة المفروضة عليهم. وفي الضفة الغربية التي من المفترض أنها جزء من دولة فلسطين بعد التقسيم، يعانون من القيود الإسرائيلية المفروضة على تحرّكاتهم ومن حملات الاعتقال التي تشنّها قوات الأمن الإسرائيلية بذرائع مختلفة. وفي غزّة، يشعرون بأنهم في سجن كبير لا تتوفّر فيه أبسط مقوّمات الحياة بسبب الحصار الإسرائيلي الذي يعقّد مسألة سفرهم حتى للعلاج أو الدراسة في وقت تشهد منطقتهم أعلى نسبة بطالة في العالم.
مقالات أخرى:
ابتسامة الشباب الفلسطيني لحظة اعتقالهم، ما الذي تعنيه؟
وفوق كل ذلك، لا تتوقّف إسرائيل عن الإمعان في سياساتها الاستيطانية التي تقطّع الأوصال بين الفلسطينيين وتسرق أرضهم أمام أعينهم. ثم أتت أخيراً الحركات الاستيطانية المتطرفة لتمارس اعتداءات إسرائيلية "شعبية" بحق الفلسطينيين تُضاف إلى ما يرتكب بحقهم من اعتداءات إسرائيلية رسمية. وللإمعان في إهانتهم، وضعت إسرائيل نصب عينيها رمزهم الكبير، المسجد الأقصى، وراحت تعمل على تغيير وضعه بشكل تدريجي سامحةً للمتطرفين بالتجوّل في باحاته بحراسة أمنية في وقت تضع كل يوم قيوداً على حركة دخول المصلّين الفلسطينيين إليه.
والمفارقة أن هذا الواقع البائس تراكمت عناصره تدريجياً على هامش المفاوضات السياسية بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل وقد قارب عمرها ثلاثة عقود دون أن يتم التوصل إلى تسوية نهائية. إذ تحرص إسرائيل على تأجيل أي حل دائم وتعمل ببرودة أعصاب على خلق وقائع جديدة تدريجياً.
ضاق صدر الفلسطينيين بممارسات إسرائيل وفقدوا الثقة بممثليهم السياسيين. تتحدث إسرائيل عن دعاية كراهية تُوجّه ضدّها. الكراهية شعور حقيقي عام ولا يحتاج إلى الدعاية. ففي ظل الوقائع التي تفرضها إسرائيل على الفلسطينيين، تصير الكراهية شعوراً طبيعياً جداً.
ببساطة، فإن المسار السياسي منذ اتفاق أوسلو (1993) أثبت فشله ومن هنا ليس غريباً أن كل منفذي عمليات الطعن هم شباب ولدوا بعد هذا الاتفاق أو تكوّن وعيهم بعده ولا يعرفون من السياسة إلا المسار الذي أنتجه.
هوية فلسطينية عابرة للانقسام السياسي
أثبت مسار الانتفاضة أن الفلسطينيين يشعرون بهوية جامعة عابرة لمناطق انتشارهم في الداخل والقدس والضفة الغربية وقطاع غزّة. في السنوات الأخيرة، كثيراً ما ظهر أن هناك فصلاً بين فلسطينيي الضفة وفلسطينيي غزّة فكان الأخيرون يخوضون حروباً ضد إسرائيل في وقت يستمر أبناء الضفة في العيش بشكل شبه طبيعي.
وفي السنة الأخيرة بشكل خاص، أوحت وقائع كثيرة بأن حماس لا تمانع التوصل إلى تسويات مع إسرائيل تنحصر مفاعيلها في غزّة. تحاول حماس المسيطرة على القطاع التوصل إلى تفاهمات تفك عزلة القطاع الصغير المحاصر عن باقي العالم، وتسمح لأبنائه بالعيش. وإسرائيل الواعية لمخاطر التضييق على حياة الغزاويين كانت تستجيب تدريجياً لهذه المحاولات من خلال فتح معابرها الحدودية مع القطاع والسماح بإدخال مواد بناء وبضائع أخرى. ولكنها كعادتها، تحاول تأجيل الحلول المستدامة وتمرير الوقت.
عنصرية إسرائيل ضدّ عرب الـ48 في 8 نقاط
ولكن منذ التاسع من الشهر الحالي، أي بعد ستة أيام على بدء انتفاضة فلسطينيي القدس والضفة، راحت المناطق الحدودية بين القطاع واسرائيل تشهد مواجهات حادة بين حشود من الغزاويين الغاضبين وجنود الاحتلال المتمركزين خلف الشريط الفاصل. ومن أصل 44 قتيلاً فلسطينياً سقطوا منذ بداية الشهر الجاري، هناك 14 غزاوياً. الآن، بعد الانتفاضة، لم يعد ممكناً لحماس العمل بأجندة غزاوية. فرض عليها المنتفضون العودة إلى الحديث الفلسطيني العام.
ضريبة الانتفاضة غير المنظورة
كل المهتمين بما يحصل في فلسطين شاهدوا فيديو الطفل الفلسطيني أحمد المناصرة الممدد على الأرض نازفاً بعد إصابته برصاص جنود إسرائيليين، في وقت يتحلّق حوله حشد كبير ويشتمه ويتلذّذ بمشهد موته البطيء.
هذا المشهد تكرّر في أكثر من منطقة، إذ يُترك المصاب ينزف لوقت طويل قبل نقله إلى المستشفى لكي يتعذّر إنقاذ حياته. وفي بعض الحالات، وزّع المواطنون الإسرائيليون الحلوى احتفالاً بموت حامل السكين.
صار الإسرائيليون يخافون كل مَن يشتمّون منه رائحة الفلسطيني لأنهم يعتقدون أنه يحمل سكيناً ويريد قتلهم. وهذا ستكون له تبعات مستقبلية كثيرة على الفلسطينيين وخصوصاً على فلسطينيي الداخل الذين يمتلكون حرية التنقل بوصفهم حاملين للجنسية الإسرائيلية.
وفي الجانب الآخر من الصورة، يهاجم الفلسطينيون مواطنين إسرائيليين فقط لأنهم يهود دون تمييز بين مدني وعسكري وهذا يعطي حجّة للمتطرفين الإسرائيليين الذين لا يكلّون عن المطالبة بوضع قيود على تحركاتهم. وهذا أيضاً سيساعد إسرائيل على صناعة دعاية تقول للعالم إن الفلسطينيين لا يمكن ضبط "توحّشهم" بالوسائل العادية، ويحتاجون إلى وسائل خاصة حتى ولو كان فيها تمييز عنصري. ولا ننسى أن السكين الفلسطيني سيذكّر العالم غير المتابع بدقة لما يجري في الشرق الأوسط بسكاكين داعش.
الآن، صار المتطرفون الإسرائيليون يمتلكون مسوّغات لمطالبتهم بخطوات تفصل عنصرياً بين اليهود والفلسطينيين. صار بإمكانهم المطالبة بمنعهم من ركوب حافلات النقل العام بذريعة أنهم يهددون حياة ركابها...
شكل الانتفاضة الفلسطينية الحالية يُضعف التيار الإسرائيلي الذي يدعو إلى مساواة في الحقوق المدنية بين حاملي الجنسية الإسرائيلية يهوداً وفلسطينيين ويقوّي التيارات اليمينية المتطرفة، كما يوفّر ذريعة لمنع أبناء الضفة الغربية من الدخول إلى الأراضي الإسرائيلية للعمل أو للقاء أقربائهم.
وهنا تنبغي الإشارة إلى أنه كما أن هناك فلسطينيين كفروا بقواهم السياسية وخرجوا عن قيودها، هناك إسرائيليون يربون في بيئات الحركات الاستيطانية المتطرفة ويرفضون خطاب مؤسساتهم السياسية ويطالبون بالمزيد من التشدّد وصاروا يعتبرون أنفسهم خارج منظومة دولة إسرائيل إلى حد ما. هناك مستوى شعبي للمواجهة وهذا خطير جداً لأن صراعاً كهذا لا قواعد له، علماً أن المتطرفين اليهود يحظون بتواطؤ أجهزة الدولة معهم بعكس الفلسطينيين الذين سيجدون أنفسهم بلا أدنى حماية.
من ناحية، قد تدفع الانتفاضة الفلسطينية الحالية إلى إحياء مسار السلام. ولكن من ناحية أخرى ستؤدي، بسبب الشكل الذي اتخذته، إلى خلق أزمة جديدة تعقّد هذا المسار. كان الفلسطينيون يطالبون بعودة قسم من اللاجئين الفلسطينيين إلى الداخل بعد إنشاء دولتين. الآن أعطوا ذريعة لليمين الإسرائيلي المتطرّف لكي يطالب بنقل فلسطينيي الداخل خارج إسرائيل، لأنه لا يمكن العيش معهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين