يتلذذون بأكل المسخن ويتفنون في صنع الكنافة، ويرقصون الدبكة الفلسطينية في أعراسهم، ويروون قصصاً عن ماضي الأيام وذكريات حيفا واللد ويافا والناصرة ما قبل النكبة، وتدمع أعينهم لنشيد "موطني"، لكنهم فلسطينيون مختلفون، بل قد يذهب البعض إلى حد نفي الهوية عنهم وإلحاقهم بإسرائيل، لا لشيء إلا لأنهم يعيشون داخل الخط الأخضر ويحملون جواز سفر دولة العدو ويتحدثون بلسانها: نعم، هم من اصطلح على تسميتهم بفلسطينيي الداخل أو الـ48 أو عرب إسرائيل.
يتركز الوجود الفلسطيني في قلب الجليل الذي يشمل ما يقرب من 1.658 مليون عربي، أي 20.7% من مجمل عدد السكان بما فيهم الدروز وعرب النقب (وهم ليسوا مشمولين بتعبير فلسطينيي الـ48 في هذا المقال)، حسب دائرة الاحصاء المركزي الإسرائيلية في تقريرها المنشور في إبريل 2013.
تنتاب العلاقة بين الفلسطينيين ودولتهم التي يحملون جنسيتها الكثير من التعقيدات. أبرزها الإحساس بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، ينتمون لأقلية في حالة حرب وعداء مع كيان يفترض أنه يمثلهم ويحميهم ويشعرهم بالانتماء. الأمر السيان بالنسبة للفلسطينيين الآخرين من أبناء الضفة الغربية وغزة، لكون علاقتهم مع فلسطينيي الداخل إشكالية كذلك، وتحمل الكثير من الحساسيات.
"إنتو بتحكو عبري أكثر ما بتحكو عربي"، قالها صاحب محل في رام الله لطالبة فلسطينية من يافا جاءت مع صديقاتها لتتبضع وتمضي وقتاً في مقاهي المدينة. ربما تختصر هذه العبارة النظرة النمطية السائدة عند الكثير من الفلسطينيين والعرب عن فلسطينيي الـ48 الذين وضعتهم نكبة ضياع الأرض في نكبة ضياع الهوية.
"عرب الشمينت" تسمية يطلقها البعض من سكان الضفة والقطاع عليهم، والشمينت هو علامة تجارية لمنتجات ألبان إسرائيلية.
يعني الفلسطينيون بهذه التسمية أن أبناء جلدتهم في إسرائيل مترفون ولا يعانون شظف العيش، إضافة لما يحمله استعمال الكلمة العبرية من دلالة. هم أيضاً "عرب البسيدر"، وهي كلمة عبرية تعني (OK)، وإطلاقها على فلسطينيي الـ48 له دلالته في البعد اللغوي والثقافي عن الواقع الفلسطيني كما يراه البعض.
"عند الكثير من الفلسطينيين ترتبط الهوية بمقدار المعاناة، فمن يعاني أكثر يحق له أن يدعي أنه أكثر فلسطينية من الآخرين، وهذا هو حالنا، فنحن نفقد جزءاً من الهوية الفلسطينية في أعين الآخرين لأننا نعيش في استقرار ولا نتعامل مع الوجه الاحتلالي لإسرائيل بشكل يومي مثل أهلنا في غزة والضفة"، يقول (أ.أ) محامي من الناصرة فضّل عدم ذكر اسمه.
تتفق معه د. لينا دلاشة، وهي باحثة في جامعة نيويورك، من أبناء قرية البعينة قرب الناصرة، وتضيف العامل الاقتصادي إلى تلك المعادلة قائلة "إن الكثير مما أشعر به حين أزور الضفة أو حين أتعامل مع فلسطينيين من خارج إسرائيل يمكن لي أن أعزوه إلى الجانب الاقتصادي. فنحن نعيش في وضع أفضل بكثير من فلسطينيي الأراضي المحتلة من ناحية مستوى المعيشة والخدمات، وإن كنا بالطبع نعاني من تمييز لا ينكره حتى الإسرائيليون فيما يخص التعيينات، وتخصيص الميزانيات للمدن والقرى والتعليم وغيرها من حالات يبدو فيها تفضيل اليهود الإسرائيليين أوضح ما يكون".
من المعروف أنه نادراً ما تمنح تصاريح للفلسطينيين الإسرائيليين لتوسعة منازلهم، فيما تمنح هكذا تصاريح بدون عناء لليهود الإسرائيليين، وقد أدى ذلك إلى أن يمتلك فلسطينيو الـ48 ما يقارب 3% فقط من أراضي الدولة. "قريتي لم يتم توسعتها منذ عشرين عاماً، القانون لا يمنع صراحة لكنه يعطي الحكومة سلطة تحديد مسطحات المدن والقرى، وهنا تكمن العراقيل البيروقراطية المتعمدة"، تقول لينا دلاشة.
هكذا يعيش فلسطينيو الـ48 إشكالية الهوية بين المواطنة والانتماء: يعيشون في دولة مجبرة على التعامل معهم كأقلية أسعفتها ظروف حرب 1948، إضافة إلى رغبة أهلها في البقاء حيث عاش أجدادهم منذ قرون طويلة، وينتمون إلى إخوة لهم يرون تأثير هذا الواقع الغريب على أبناء وطنهم، من استعمال للغة العدو وهوياته والتمتع بمزايا مواطينيه، كشيء يناقض الهوية الفلسطينية.
في أول يوم من أيام معسكر بذور السلام السنوي في عام 2002 (Seeds of peace) في الولايات المتحدة، الذي تقيمه منظمة أمريكية بذات الإسم، ويهدف إلى خلق جو من التعارف والتفاهم بين الطلبة الإسرائيليين والفلسطينيين بمشاركة عربية، وجد الطالبان الفلسطينيان المشاركان ضمن الوفد الإسرائيلي نفسيهما في مأزق.
"شاهدت الحيرة والحرج باديين عليهما حين توجه كل وفد ليغني نشيد بلده الوطني في الصباح أمام العلم". يقول المحامي الفلسطيني من أبناء الناصرة رامي نصير الذي كان مشاركاً آنذاك في إدارة البرنامج، ويضيف: "تمتما ببضع كلمات فيما كانت نظراتهما تشي بحرج بالغ. تحدثت معهما بعد المراسم وقالا لي إن النشيد لا يعبر عنهما فهو يتحدث عن اليهود وأرض صهيون، كما أن شعورهما بعدم الانتماء تضاعف بسبب الحرج من العرب الآخرين المتواجدين في المعسكر. عندها تحدثت مع زملائي في الإدراة وقررنا تغيير المراسم وجعل الطلبة يقفون حيث يشاؤون عوضاً عن التحلق حول العلم وإعطائهم حرية الغناء من عدمه". زال الحرج وبقيت المشكلة.
تظهر صورة هذا التناقض بأوضح ما يمكن في بحث أجراه عالم الاجتماع سامي سموحه من جامعة حيفا عن العلاقة العربية - اليهودية في إسرائيل عام 2012 ونشرت نتائجه عام 2013.
أظهرت الدراسة أن 70.5% من العرب يقولون إن الحكومة تعاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية، أو كمواطنين معادين للدولة، لا يستحقون معاملة متكافئة مع اليهود، وعبّروا عن إحساسهم بأن العقوبات ضدهم لتأييدهم مقاطعة منتجات المستوطنات اليهودية، وإعطاء الصلاحية للجان القبول في القرى لرفض مرشحيهم، والغرامات المفروضة على من يقوم بإحياء ذكرى نكبة 1948، تضعف من قبولهم بحق إسرائيل في الوجود. كما قال أكثر من ثلثي العرب إنهم يخشون من عملية نقل للسكان في المستقبل، وقال 62% منهم إنهم لا يثقون بأغلبية اليهود.
تؤشر هذه النتائج إلى ما يمكن تسميته “بنصف مواطنة” في إسرائيل تجعلهم في حالة ترقب دائم للاتجاه الذي ستمضي إليه سفينتهم التي تتلاطمها أمواج القضية الفلسطينية المتقلّبة. أثناء الانتفاضة الثانية عام 2000، دخلت القوات الإسرائيلية المدن العربية في إسرائيل، وأطلقت الغاز المسيل للدموع والرصاص على المتظاهرين العرب من مواطني دولة إسرائيل. "يومها شعرت فعلاً أنه لا قيمة لنا في أعين الإسرائيليين"، يقول رامي نصير.
يرى فلسطينيو الـ48 أنفسهم السكان الأصليين للبلاد، يحملون إرث فلسطين وثقافتها العربية، وارتباطاً عمره قرون من الزمن بهذه البقعة بكل ثرائها التاريخي والديني والاجتماعي، مما جعلهم لا يقبلون في وعيهم أنهم الآن أقلية في أرضهم التي تحكمها أغلبية غريبة عنهم.
رغم أن مشكلة الهوية عند فلسطينيي الـ48 لا تزال حاضرة بقوة بسبب هذا الوضع المعقد، إضافة لتعقيدات الهوية الفلسطينية نفسها التي تغذيها اعتبارات اجتماعية ودينية ومناطقية، فإن هناك تفهّماً متزايداً، وإن كان لا يزال نسبياً، لوضع هؤلاء الفلسطينيين المنسيين منذ زمن. إنه من اللافت أن من أشهر شعراء المقاومة الفلسطينية الذين أثروا الوجدان الفلسطيني والعربي بنتاجهم هم من فلسطينيي الـ48، محمود درويش وسميح القاسم.
أضف إلى هذا أنه بفضل وجوه إعلامية معروفة مثل عزمي بشارة وحنين زعبي وأحمد الطيبي وغيرهم ممن أصبحوا ضيوفاً معروفين على القنوات الفضائية العربية، بدأت تلك الصورة النمطية عن فلسطينيي الـ48 تتغير، وإن كان هذا التغير دون ما هو مطلوب بكثير، إلا أنه يشكل بداية طيبة للاعتراف والتعارف بهؤلاء العرب الذين يدفعون ثمن احتلال لا ذنب لهم فيه.
ربما كانت تلك الصورة الشهيرة لاحتفالات الفلسطينيين بفوز محمد عساف بلقب عرب آيدول والتي قسمت شاشة قناة mbc إلى أربع شاشات تظهر الأولى محمد عساف فيما تنقل الثلاث الأخريات مظاهر البهجة العارمة من رام الله وغزة والناصرة دليلاُ على دخول فلسطينيي الداخل في دائرة الوعي الفلسطيني/العربي كجزء أصيل من هذا الشعب.
حين سألت لينا دلاشة عما تريد قوله للفلسطينيين والعرب في ختام حديثها، قالت: "أقول للجميع: لقد تمسكنا بأرضنا، فلماذا يجب علينا أن ندافع عن هويتنا؟".
نشر هذا المقال على الموقع في تاريخ 12.11.2013
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون