إكسير الحياة أو الشباب الدائم، قضية شغلت الإنسان منذ أزمان بعيدة، هذا ما تخبرنا به كتب الأساطير والحكايات الشعبية في أكثر من منطقة في العالم. في روايته الثانية "جنة على الأرض"، لا يبتعد فادي زغموت عن هذه الفكرة، متخيّلاً أن التطور التكنولوجي سيجد حلولاً للأمراض، أحدها مرض الشيخوخة.
تجري أحداث الرواية في عام 2091، بعد أن تمكّن العلماء من اختراع حبة صفراء تحافظ على الشباب، "إن العلاج السحري لعلامات الزمن أصبح في متناول الجميع على شكل حبة صغيرة صفراء اللون تعيد الحيوية لخلايا الجسد وتحمينا من الشيخوخة ومصاعبها وويلاتها. ظهور تلك الحبة قبل عشرين عاماً كان إنجازاً بشرياً مبهراً. لم يكن ظهورها مفاجئاً تماماً لنا، لأنها جاءت امتداداً للتسارع المطّرد للعلم في مجال التكنولوجيا الحيوية".
مقالات أخرى
مقاصد المثقفين في العالم العربي
قوائم "البيست سيللر" في مصر: تسطيح للأدب أم خطوة إلى الأمام؟
ومنذ البداية يضعنا الكاتب أمام حالتين مختلفتين في العائلة نفسها، فجنة عادت إلى شبابها باستخدام الحبة، وقررت أن تعيش حياة مديدة من دون أن تصل إلى لحظة الموت. أما شقيقها جمال، وعلى الرغم من أنه رجل علم، وساهم في إيجاد الكثير من العلاجات لأمراض الشيخوخة، التي ساعدت في الوصول إلى اختراع هذه الحبة، فإنه يؤمن أن الحالة الطبيعية هي أن يموت الإنسان ويذهب إلى خالقه، ليعيش حياة ما بعد الموت، لذلك رفض استعمال هذا الاختراع. وفضّل أن يعيش حياة طبيعية، يصل فيها إلى الشيخوخة ويعاني منها، ثم يغادر هذه الدنيا بالطريقة الاعتيادية.
هكذا، تطرح الرواية الكثير من الأسئلة الفلسفية، والقضايا العميقة المتعلقة بفكرة الخلود والموت، وأهمية الوقت حين يصبح متوفراً من دون حدود، كما تطرح فكرة إمكانية منح حياة جديدة مرفهة لأولئك الناس الذين ولدوا فقراء، وعانوا من البؤس والشقاء. أما الفكرة الأهم التي تناقشها، فهي أحقية الحياة، إذ تتساءل جنة في إحدى المرات: "هل من الحكمة للبشرية أن توفّر علاج الشباب الدائم للجميع من دون أي معايير أو استثناءات؟ هل يحق الشباب بشكلٍ متساوٍ لمن يملك عقلاً عاقلاً ومن لا يملك؟".
كذلك تطرح الرواية فكرة حرية الاختيار، وأبعادها الأخلاقية، فهل يبقى الإنسان حراً في أن يختار الشيخوخة، أو أنها ستعتبر مرضاً قابلاً للعلاج، وبالتالي يجب على كل فرد تجنّب هذا المرض والعلاج منه، وإلا فإنه سيكون في حكم المنتحر؟ هذا عدا أن كبار السنّ يصبحون غير منتجين، وتصرف الدول على رعايتهم مبالغ طائلة، فهل يجب احترام رغبتهم تلك، أم عليهم هم الرضوخ لمصلحة الدولة، ومراعاة البعد الاقتصادي لقرارهم ذاك؟ وعلى الطرف المعاكس، هل يحق للمجتمع أن يفرض رغبته تلك على الإنسان من دون احترام لخصوصيته وحقه في الاختيار؟
تثير الرواية أيضاً موضوع الحب والرغبة، وتسرب الروتين إلى العلاقات العاطفية، فجنة وزوجها عاشا معاً سبعين سنة متواصلة، لكن الأفكار تتوارد إلى ذهنها، خصوصاً أن العمر أصبح الآن غير محدود، "هل أريد أن أعيش المئة عام القادمة مع زيد؟ وإن أردت ذلك، فماذا عن المئة عام التي تليها؟ كان من السهل كتم تلك الأصوات عندما كانت الشيخوخة جزءاً من المعادلة، فالكبير يشعر بالعوز والحاجة، وعلاقتنا كانت قد تحوّلت إلى علاقة عِشرة أكثر من علاقة غرام. تلك العشرة الجميلة كانت كافية في وقت كانت حيواتنا محدودة ونهايتها منظورة".
زوج جنة سيفاجئها بقرار غريب اتخذه، سيزيد من حيرتها وتساؤلاتها، إذ إنه يرغب في أن يعود إلى طفولته. هكذا ستعيش جنة تجربة أخرى جديدة وغريبة عليها بعد أن ينكمش حجم زوجها ويصبح مراهقاً في عمر الثالثة عشرة. تظهر الفنانة صباح، الشحرورة في الرواية، كشخصية ثانوية، على اعتبار أنها أول من جرّب "حبة الشباب"، فيرسم الكاتب مشاهد لحوارات معها، ومشاهد لحفلات جديدة تحييها في عام 2091، بعد أن عادت إلى صباها، واختارت البقاء إلى ما لا نهاية على هذه الأرض.
كنتيجة طبيعية لتنظيم معدل النمو السكاني، فالقانون في رواية جنة على الأرض، يمنع الولادات الجديدة إلا في حالة واحدة فقط، هي فقدان أحد أفراد العائلة. هكذا يصبح أمام جنة فرصة أن تكون أماً إذا وافق أخوها جمال على منحها ميراث حياته بعد أن يموت، وقد قررت أن تعيد أمها إلى الحياة، فالعلم أصبح قادراً على زرع خلية في رحم المرأة، تحوي الخارطة الجينية لأي شخص لإعادته إلى الحياة.
يستفيد الكاتب من التطور التكنولوجي، فيذكر في روايته اختراعات تسهّل حياة الأشخاص، كالطابعة التي تطبع الطعام بمذاقات مختلفة، والملف الشخصي الإلكتروني الذي يُظهر للآخرين المعلومات الشخصية لكل إنسان، وغيرها. تثير هذه الرواية تأملات وافرة، وتحرّض قارئها على التفكير في كثير من المسائل، وبرغم أنها رواية تنتمي إلى أدب الخيال العلمي، الذي يُنظر إليه عادةً بنوع من الاستخفاف، وبأنه نمط من الأدب الأقل قيمة، فإن هذه الرواية استطاعت مناقشة أفكار في منتهى الأهمية، واستطاعت أن تبرز تنوّع اختيارات الإنسان، حين يكون لديه خيارات متنوعة، وكيف تتضارب رغباته مع رغبات الآخرين، مؤكدة أن "الإنسان هو الإنسان" في كل زمان ومكان.
فادي زغموت روائي أردني، من مواليد عمان 1978. يحمل شهادة ماجستير في الكتابة الإبداعية والنقد الفكري من جامعة ساسكس في المملكة المتحدة. له روايتان: "عروس عمّان" التي ترجمت إلى الإنغليزية، و"جنة على الأرض".
الناشر: دار الآداب/ بيروت
عدد الصفحات: 222
الطبعة الأولى: 2015
يمكن شراء الرواية من موقع نيل وفرات، أو متجر جملون، أو موقع آرابيك بوك شوب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com