"اليوم ماتت أمي. أو لعلها ماتت أمس. لست أدري"، هكذا يبدأ البير كامو رواية "الغريب"، التي يسرد فيها قصة "مورسو" الشاب الفرنسي الذي يعيش في الجزائر، والذي يقتل عربياً على شاطئ البحر بخمس طلقات نارية، ويتعرض لمحاكمة عبثية، تحاكمه لأنه لم يبكِ أمه، ولم يحزن لموتها، أكثر مما تحاكمه على جريمة القتل التي ارتكبها.
تحوّل "مورسو" إلى أشهر قاتل في تاريخ الأدب، فبعد أن صدرت الرواية عام 1942، اعتُبرت من أهم الروايات الوجودية في القرن العشرين، وترجمت إلى عشرات اللغات، وصارت إحدى أكثر الروايات تدريساً في المدارس والجامعات، والأكثر مبيعاً بين الكتب. "أمي اليوم ما زالت على قيد الحياة"، هكذا يبدأ "كمال داود" روايته، التي يعارض فيها رواية "كامو". فيكتب عن العربي، القتيل الذي لم يُذكر له اسم أو ملامح، وتمّ تجاهله لأكثر من نصف قرن، بينما خُلّد القاتل وصار اسمه على كل لسان.
يُعيد داود التحقيق في رواية كامو من خلال قصة طالب فرنسي يعدّ أطروحة عن العربي القتيل، فيلتقي هارون شقيقه، ليلة تلو الأخرى في حانة للشرب، ويستمع إليه، وهو يسرد قصة القتيل العربي موسى، وقصة عائلته المنكوبة. "أنا بدوري، قرأت روايته للأحداث مثلك ومثل ملايين الآخرين. ومن البداية يُفهم كل شيء، فهو حمل اسم رجل، وأخي اسم حادث. كان بإمكانه أن يسمّيه "الثانية بعد الظهر" كما سمّى الآخر زنجيَّه "جمعة"، أحد آونة النهار بدلاً من أحد أيام الأسبوع. "الثانية بعد الظهر" اسمٌ مناسبٌ تماماً. "زوج" في اللغة العربية، اثنان، ثنائي، هو وأنا، توأمان لا لبس فيهما بشكل ما بالنسبة إلى من يعرف هذه القصة. عربيّ وحسب، فنيّاً لم يُعمّر طويلاً، عاش ساعتين وظلّ ميتاً طوال سبعين عاماً من دون انقطاع، حتى بعد دفنه".
عاش هارون كظل لأخيه المقتول، أمه لم تشعر بوجوده إلا بعد أن كبر، فألبسته ثياب أخيه، وفرضت عليه واجب التقمّص، وقادته معها في الأزقة والشوارع للبحث عن القاتل. نشأ هارون كشبح، محكوماً بالتيه، متروكاً، منسياً، حاملاً جثة أخيه فوق ظهره، متمنياً أن يقتله مرة ثانية بعد موته كي يستطيع التخلص منه، ويستعيد حنان أمه المفقود. غارقاً في يتمه، مضيّعاً ذاته، وحقيقته، "هناك مورسو وأمه من جهة، وأمي مع موسى من الجهة الأخرى، وفي الوسط تماماً أنا الذي لا أعرف ابن مَن مِن الفريقين".
جرّته هذه المشاعر وهذا الثقل الذي يجثم على روحه إلى الثأر، إلى الانتقام، فاختار فرنسياً مغرماً بالسباحة عند الثانية ظهراً، الساعة التي قُتل فيها موسى، انتظر الفرصة المناسبة وقتله برصاصتين، أضافهما إلى الرصاصات الخمس التي قتلت أخاه، قتل الفرنسي، وقتل جثة موسى ليتمكن من أن يعود هو إلى الحياة.
مقالات أخرى
مصر، حين يساق الخيال إلى المحاكمة
خمس روايات عربية عن الاغتراب
يسرد هارون كل ذلك للطالب الفرنسي، ويحكي له عن الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، وعن مغادرة الفرنسيين للبلاد، عن زمنٍ صار فيه القتل شائعاً، لدرجة أن جريمته تلك لم تكن شيئاً تراه العين، لو أنه ارتكبها قبل يوم واحد، لكن حظه التعس، جعله يرتكبها بعد يوم من حصول الاستقلال، فلم يُنظر إليها كعمل بطولي، بل كجريمة.
يطرح داود أسئلته عن العنف، عن القتل، عن تلك الحرب التي ذهب فيها القتلى بمئات الألوف، عن الفرق بين القتل والقتل، هل يختلف قتل الشخص نفسه من أجل التحرير عن قتله من أجل سبب آخر؟ هل يختلف فعل القتل بحسب وقت حدوثه؟ وأمام الضابط الذي يحاكمه يطرح هارون سؤاله الموجع: "إن كنت قتلت السيد لاركيه في الخامس من تموز عند الساعة الثانية صباحاً، هل نعتبر أننا كنا لا نزال في الحرب أم أننا دخلنا الاستقلال؟ قبل أم بعد؟".
يبني الكاتب روايته على شكل مونولوغ طويل يهذي به هارون في حانة شرب، لذا فإن قصته مبعثرة، مفككة، تحتاج صبراً كي يتمكن القارئ من جمعها وإعادة ترتيبها في ذهنه، خصوصاً أن هذيانات هارون لا تتوقف عند حدود قصة مقتل أخيه وثأره، بل تذهب إلى الحكي عن الكثير من المواضيع الشائكة: عن اللغة، عن الدين والله، عن المعتقدات، عن الآخر وكيف أن "الآخر مقياس نفقده عندما نقتل"، وعن علاقته هو بذاته، وبأمه، وبـ"مريم" التي أحبها، وكانت المرأة التي فجّرت أسئلته عن الحب الذي هو "أشبه بوحش سماوي".
بطل "معارضة الغريب" بطلٌ مقتول، متنكرٌ بهيئة قاتل. عارض "الغريب" على امتداد صفحات الرواية، وتطابق معه في الجملة الأخيرة: "أنا أيضاً أودّ أن يكون المتفرجون عليّ كثراً وأن تكون كراهيتهم ضارية". هكذا ينهي كامو روايته، وهكذا ينهيها داود أيضاً.
كمال داود، كاتب جزائري من مواليد عام 1970. يكتب بالفرنسية. له مجموعتان قصصيتان: "O Pharaôn"، "Minotaure 504". و"مورسو، تحقيق مضاد" Meursault contre-enquête روايته الأولى التي فاز عنها بجائزة "غونكور الرواية الأولى" عام 2015. وترجمت إلى عدد كبير من اللغات، من بينها العربية تحت عنوان: "معارضة الغريب".
المؤلف: كمال داود/ الجزائر
الترجمة: ماريا الدويهي وجان هاشم
الناشر: دار الجديد/ بيروت - دار البرزخ/ الجزائر
عدد الصفحات: 192
الطبعة الأولى: 2015
يمكن شراء الرواية من موقع النيل والفرات وموقع آرابيك بوك شوب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين