بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي، فُتحت الساحة التونسية على نقاشات حرّة شملت كل الإرث المسكوت عنه سنوات عديدة حكم فيها الرأي الواحد البلاد. واستفاق الشعب التونسي فجأة على الحقيقة التي كانت متوارية أكثر من نصف قرن من عمر الدولة الوطنية الحديثة، قضية العنصرية داخل المجتمع.
داخلياً وخارجياً، سادت صورة نمطية عن المجتمع التونسي بوصفه مجتمعاً تقدمياً يعطي المرأة حقوقاً واسعة، ويخلو من النزعات العنصرية والمناطقية والطائفية والعرقية، بحيث يشبه إلى حد كبير المجتمعات الأوروبية. كان الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة يطمح إلى بناء مثل هذا المجتمع، فدعم المدوّنة التشريعية بعشرات القوانين الحديثة، لكن حركة المجتمع لم تسِر في السرعة نفسها وعلى الخط نفسه.
العنصرية أقوى من الحب
شكري قمعون، تونسي على مشارف الأربعين من العمر، بشرته سوداء. تعرف منذ سنوات إلى فتاة من بلدته وعاشا معاً قصة حب طويلة لم تكلل في النهاية بالزواج بسبب عائق اللون. فقد رفضت عائلة الفتاة فكرة أن ترتبط ابنتها بشاب أسود. وبرغم توسّط كثيرين لدى العائلة وبرغم الجهود التي بذلها شكري والفتاة، فإن العائلة تشبثت بموقفها وأفشلت مشروع الزواج نهائياً.
مقالات أخرى:
عنصرية إسرائيل ضدّ عرب الـ48 في 8 نقاط
استمرار ثقافة "العبودية" في بعض مناطق مصر
يعمل شكري في المسرح ويحمل أفكاراً تقدمية، الأمر الذي جعله يغامر ويتقدم للفتاة، برغم معرفته المُسبقة بالعقليات السائدة في بلدته وموقفها من الفروق العرقية والإثنية. ويرى أن العنصرية في المجتمع التونسي نزعة كامنة ولكنها موجودة بكثافة، فما إن تصل العلاقة بين الفرد الأبيض والأسود داخل المجتمع إلى مستوى معين، حتى تتكشف النزعات العنصرية.
وقال شكري لرصيف22: "يمكن أن تربطك علاقة صداقة متينة بشخص أبيض ولا يظهر عليه أيّ سلوك أو خطاب عنصري تجاهك، ولكن لو حدث أن تقدمت لخطبة أخته، سيرفض كاشفاً عن عنصرية كامنة في دواخله، والأمثلة على ذلك كثيرة في مجتمعنا".
وأكد شكري أنه على الرغم من المساواة النظرية التي يتمتع بها المواطنون التونسيون أمام القانون وأمام الفرص الاقتصادية و الاجتماعية، فإن الوعي السائد اجتماعياً ما زال ينظر إلى الفرد الأسود كمواطن من درجة ثانية، وذلك يتجلى حتى في لهجتنا العامية التي ما زالت تشير إلى الأسود بكلمة "وصيف" أو "عبيد" وللمرأة السوداء بكلمة "خادم" كما في لهجة الجنوب الشرقي".
لم يتعرض شكري قمعون للعنصرية في قضية الزواج فقط بل في ميدان العمل أيضاً، فقد كان يعمل منشطاً ثقافياً في الإذاعة المحلية لبلدته، جنوب شرق تونس، وعقب ثورة يناير 2011، قررت الدولة تسوية الأوضاع المهنية للعاملين في الإذاعة من خلال التثبيت وتحسين الأجور والتغطية الاجتماعية، إلا أن مدير الإذاعة استثنى شكري من هذه الإجراءات. يفسر شكري ذلك "بعنصرية كامنة لدى هذه المسؤول منعته من منح موظف أسود اللون حقه".
الدولة لا تُجرم العنصرية
بموازاة ظهور نزعات العنصرية الكامنة، ظهرت في البلاد قوىً مدنية مناهضة للتمييز العرقي، وأخذت على عاتقها تبني قضايا مَن يتعرضون للتمييز، تونسيين وأجانب على السواء. بين هذه القوى الجديدة جمعية "منامتي"، وهو اسم من اللهجة المحلية التونسية ويعني "حُلمي"، وقد تأسست عقب ثورة يناير 2011.
ولفتت سعدية مصباح، رئيسة الجمعية، إلى أن هدف الجمعية المركزي هو "فضح النزعات العنصرية المسكوت عنها في المجتمع التونسي وتالياً التوعية على خطورتها على السلم الأهلي وعلى تماسك المجتمع وتنوّعه ومحاولة القضاء عليها من خلال برامج التوعية المدنية والتثقيف الشعبي وإيجاد تشريعات قانونية واضحة ذات طابع جزائي تعاقب كل مَن يأتي بسلوك أو خطاب عنصري ضد مواطن أو مقيم".
[caption id="attachment_36375" align="alignleft" width="700"] سعدية مصباح[/caption]وأضافت لرصيف22 أن "المجتمع التونسي، أو بالأحرى الوعي الجمعي، لم يتخلّص من رواسب العنصرية المتأصلة فيه منذ قرون، برغم التقدم الهائل الذي سارت فيه البلاد على مستوى التعليم والثقافة وقضايا المرأة. فكثير من التونسيين ما زالوا ينظرون إلى المواطن الأسود على أنه من فئة العبيد وكأننا نعيش في القرون الوسطى".
وتابعت: "برغم أنه كان يوجد عبيد من ذوي البشرة البيضاء تاريخياً فإن وصمة العبودية ارتبطت في مجتمعنا، حصراً، بأصحاب البشرة السوداء. ونلمس ذلك أيضاً في التعامل مع وسائل النقل والإدارات الحكومية خاصة في المدارس، إذ يُعتبر التلميذ الأسود، أو ما يسمى في اللهجة العامية التونسية "وصيف"، تلميذاً غريباً داخل الفصل تُوجه إليه نظرات التمييز". وأكّدت أن "هذا أمر عشته شخصياً في طفولتي في الحي والمدرسة. كذلك الحال بالنسبة للطلاب الأفريقيين في تونس، إذ تتعرض هذه الشريحة لعنصرية مضاعفة بسبب انتمائها الأجنبي واللون، وقد حرصنا في جمعيتنا على تبني قضايا هؤلاء الطلبة والدفاع عنهم من خلال محاولة إدماجهم في الفضاء التونسي".
ورأت مصباح أن هذه النزعات العنصرية "ظهرت بشكل كبير بعد ثورة يناير 2011، فقد استغل التونسي مساحة الحرية الواسعة ليكشف عن سلوكه وخطابه العنصريين ضد مواطنيه من ذوي البشرة السوداء. وقد وجد متسعاً لذلك بسبب الفراغ التشريعي الذي تشكو منه المدونة القانونية التونسية، فلا رادع لهؤلاء. إذ لا يوجد قانون تونسي يُجرّم التمييز العنصري خطاباً وسلوكاً في البلاد. وحتى الدستور الجديد، الذي أُعتُبر ديمقراطياً وتقدمياً قياساً على كثير من الدساتير العربية والعالمية، لا يُشير إلى مسألة التمييز، إنما يشير إلى التمييز بشكل عام وغائم".
سبقٌ تاريخي
فيما كانت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب تمزّق الولايات الأمريكية، بسبب رفض الجزء الجنوبي لقرارات السلطة المركزية القاضية بتجريم العبودية، كانت تونس قد سارت أشواطاً طويلةً في تحرير العبيد. ففي يناير 1846 أصدر أمير تونس، أحمد باي الأول، أمراً ملكياً قضى بإلغاء العبودية في البلاد، لتكون بذلك أول بلد عربي وإسلامي يُقدم على هذه الخطوة برغم معارضة القوى المحافظة داخل المجتمع.
وقبل ذلك كان الباي التونسي قد أصدر قراراً في 6 سبتمبر 1841 يقضي بمنع الاتجار بالرقيق وبيعهم في أسواق المملكة، كما أمر بهدم الدكاكين التي كانت معدّة في ذلك الوقت لجلوس العبيد بـ"البركة" (سوق مخصصة لبيع العبيد)، ثم أصدر أمراً في ديسمبر 1842 يعتبر مَن يولد على التراب التونسي حراً ولا يُباع ولا يُشترى.
كيف ساهمت تونس في تحرير "عبيد" أمريكا؟
ولم تكتفِ تونس في ذلك الوقت بتجريم العبودية داخلياً فقط بل حاولت تصدير خبرتها إلى دول أخرى. فعام 1864، حاولت رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية حشد ما أمكن من الحجج والاستئناس بالتجارب الدولية الأخرى في قضية تحرير "العبيد" في مواجهة خصومها في الجنوب الرافضين لخطوة التحرير، فأرسل قنصلها في تونس، أموس بري، رسالة إلى الجنرال التونسي حسين، وكان حينذاك رئيساً للمجلس البلدي لمدينة تونس وأحد رموز المشروع الإصلاحي بقيادة الوزير خير الدين التونسي. طلب القنصل الأمريكي استفسارات عن منافع "قانون تحرير العبيد" في تونس.
ورداً على الطلب الأمريكي، حرر الجنرال حسين رسالة موجزة، شرح فيها كيفية إلغاء العبودية في تونس ووصايا القرآن حول هذا الموضوع. وقام بري برفعها إلى وزير الخارجية الأمريكية وليام إيتش سيوارد الذي أوصلها بدوره إلى الرئيس أبراهام لينكولن فأعجب الأخير بها إلى درجة أنه أمر بإعادة طبع نصها ونشره على نطاق واسع. وقد نوقشت رسالة الجنرال حسين في الصحافة الأمريكية، وهي الآن في كتيب صغير في مكتبة جامعة هارفرد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 8 ساعاترائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يوممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين