باع والد تلك العائلة الذي كان يعمل محاسبًا سيارته وخلية النحل وتذرّع بحجة الذهاب في عطلة مع والدته وزوجته وأطفاله الثلاثة وقريبه إلى اسطنبول قبل التوجه إلى سوريا. أمّا إسلام سيولي الذي يدرس طب الأشعة في العاصمة فهو أيضًا يعرف رجل مقعد انضم إلى جبهة النصرة ولكنه عاد إلى السجن في بلاده. لم يكن سيولي واثقًا بما يجب فعله حيال الجهاديين العائدين ولكنه كغيره من الذين التقيتهم يتكلم عن الحاجة لبرنامج إعادة تأهيل للعائدين ولكن تلك البرامج غائبة.
يشهد تاريخ تونس على أنها دولة علمانية من الخارج وإسلامية من الداخل. أعد حبيب بورقيبة الرئيس التونسي الأول بعد الاستقلال عن فرنسا عام 1956، نظامه بطريقةٍ تتشابه مع نظام كمال أتاتورك العلماني في تركيا. إذ وضع قطاع التعليم العام في عهدة المؤسسات، وعزز دور المرأة، ومنع الحجاب في المدارس والمراكز الحكومية، ووضعت جامعة الزيتونة الصرح التعليمي الإسلامي التاريخي تحت سيطرة الحكومة وتم تنصيب أئمة ومراقبة المساجد. أمّا بن علي، فحكم بقبضةٍ أقوى. سجن آلاف الإسلاميين، من بينهم أعضاءٌ في حركة النهضة الإسلامية، كقائدها منذ عام 1981 راشد الغنوشي، الذي أجبر على اللجوء إلى لندن عام 1989. يقول الغنوشي، الذي عاد إلى تونس مباشرةً بعد الثورة، إن التطرف ليس ثمرة الثورة بل متوارث منذ أيام نظام بن علي. يتهم بعض العلمانيين حركة النهضة باستخدام الديمقراطية كاستراتيجيةٍ طويلة الأمد، لفرض الإسلام على حياة التونسيين. وفي حال كانت هذه الفرضية صحيحة، فإن حركة النهضة تخوض هذه التجربة بروحٍ متسامحة أكثر من أي حزب أو حركة إسلامية في المنطقة. تقول مونيكا ماركس: "أعتقد أن النهضة تسعى إلى أسلمة المجتمع، وهي لاعب سياسي واقعي يريد إقناع الشعب وليس إجبارهم". انطلاقاً من حرصه على التحديث، شجع نظام بن علي انتشار المحطات التلفزيونية والإنترنت، وبذلك دخلت الخطب الدينية إلى بيوت التونسيين. فاستمع التونسيون لخطب رجل الدين المصري يوسف القرضاوي، الذي عبّر عن انزعاجه من العلمانية السائدة في تونس. يقول أسامة رمضاني الذي كان مسؤولًا بارزًا في عهد بن على، حتى أن البعض كان يدعوه "وزير الدعاية"، إن المتطرفين استطاعوا استخدام أدوات التواصل تلك لتجنيد الشبان ونشر الخطب الدينية وقاموا بذلك على نحوٍ فعّال. وصل التونسيون إلى مناصب متقدمة نتيجة 3 أجيال من الجهاد، فقد حاربوا ضد الجيش السوفياتي في أفغانستان في الثمانينيات، وضد الصرب في البوسنة في التسعينيات. وقد اعتبر بن علي الجهاد مادّة مصدرة إلى دول أخرى، لذلك لا يرى فيه خطرًا على بلاده. عام 2000 برزت مجموعة القتال التونسية الموالية للقاعدة، وأخذت من الإطاحة بالحكومة التونسية هدفًا لها. أمّن طارق معروفي أحد مؤسسيها جوازات سفرٍ مزورة لتونسيين توجّها بناءً على معلومات مزعومة من أسامة بن لادن إلى شمال أفغانستان مدعين أنهما صحافيان، لتنفيذ عملية اغتيال أحمد شاه مسعود، قائد المجاهدين الأفغان في 9 سبتمبر 2001. أمّا القائد الثاني لهذه المجموعة، والمعروف بأبو إياد التونسي، وهو أيضًا قائد في تنظيم القاعدة، فقد فرّ من تورا بورا مع بن لادن، عندما أطاح الأميركيون طالبان عام 2001، إلّا أنّه تم القبض عليه في تركيا عام 2003 ليسلّم بعدها إلى تونس. استغل أبو أياد فترة سجنه الطويلة لتجنيد زملائه من المساجين. أمّا أبو بكر الحكيم، وهو فرنسي من أصل تونسي، فقد ساعد على تأليف شبكات ترسل الجهاديين الفرنسيين إلى العراق، ومن ضمنهم الأخوان كواشي، اللذان قاما العام الماضي بارتكاب مجزرة Charlie Hebdo في باريس. وفي العراق، العديد من الجهاديين التونسيين يأتون من المنطقة عينها: بن قردان، وهي مدينة تقع على الساحل الصحراوي للحدود الليبية. حتى أن أبو مصعب الزرقاوي مؤسس القاعدة في العراق، قال عن تلك المنطقة إنها لو كانت بالقرب من الفلوجة لاستطاع التنظيم تحرير العراق بأسره. بن قردان مدينة رملية بمنازل طينية منخفضة، فيها الكثير من شجر الزيتون، وأكوام النفايات، ورملٌ برتقالي. يصل عدد سكانها إلى 8000 نسمة، وتحتضن مهرجان الإبل السنوي. في بن قردان كثيراً ما تكون اللحى أطول مما هي عليه في العاصمة، والحجاب أكثر تشدداً والوجوه أكثر جديةً. تبعد ليبيا عنها 20 ميلاً لجهة الشرق. وتعتمد بشكلٍ شبه كلي على تهريب البضائع. في طريقنا نحو الحدود الليبية، رأينا العديد من الشاحنات المحملة بالسجاد والمكيفات والأفران، والعديد من الرجال الذين يبيعون المواد النفطية المهربة على قارعة الطريق. تدعم الدولة الليبية معظم البضائع، وهذا ما شكل سوقاً سوداء واعدة في تونس. يكسب سائقي علاء، ابن الـ22 عاماً، رزقه من تهريب الأحذية إلى تونس العاصمة. وهو يقود حافلته سبع ساعات للوصول إلى هناك، ويقوم بهذه الرحلة 27 مرّة في الشهر. لكن مع ارتفاع كلفة المواد النفطية والغذاء، والرشوة التي عليه تقديمها لرجال الشرطة، يتكبّد في بعض المرّات خسائر مادية. يستغل الجهاديون زحمة الحدود لتهريب السلاح والمقاتلين من ليبيا إلى تونس وبالعكس. استمر التهريب، على الرغم من إغلاق الحكومة التونسية في العام 2014 معبر بن قردان لمنع الإرهابيين المدرّبين في ليبيا من دخول البلاد، من خلال بناء حائط رملي. كانت الشاحنة التي ركبناها من الطريق الساحلي إلى الصحراء، التي تكتظ دائماً بالشاحنات، فارغة تماماً، فقد تم سد فجوةٍ للتهريب في الحائط الرملي منذ 3 أيام، ما أثار غضب السكان المحليين. يقول علاء إن سكان المنطقة يختنقون، ويسأل لماذا لا يستطيع رجال الشرطة القيام بعملهم ووقف الإرهابيين، كما يسمحون للمهربين بالعبور بعد دفع الرشوة؟ ألسنا جزءاً من تونس؟ لقد دمرتنا الثورة. وصلت إلى منطقة لمقابلة شخص يدعى وليد، وهو من سكان بن قردان، ويخضع لمراقبة رجال الشرطة. فمع تقدم داعش في ليبيا، أصبحت تلك المنطقة خطيرةً وغير مناسبة لنا لكي نعد لقاءنا. في مارس قامت خلية نائمة من المجاهدين التونسيين المدربين في ليبيا على يد الدولة الإسلامية، بشن هجومٍ على مركز الشرطة ومواقع أخرى في المنطقة، ليقتلوا 12 شرطياً و7 مدنيين، بينما قتل 43 من أعضاء الخلية. التقينا بوليد، وهو رجلٌ عريض الوجه وسيم في الـ28 من عمره، يرتدي نظارةً وملتحٍ، عند الطريق العام في مطعمٍ للبيتزا، في مدينةٍ سياحية شعبية تدعى جرجيس. خلت تلك المنطقة إلا من بعض الأوروبيين وبعض الدرّاجين التونسيين، الذين يقودون دراجاتهم على الطريق الساحلي. وليد جهادي سابق ذو شعر ولحية طويلة تماماً كتشي غيفارا، كان ابن تاجرٍ من الطبقة الوسطى، وأجبرته طبيعة عمل والده على التنقل مع عائلته في مختلف المناطق التونسية. وفي أيام طفولته لاحظ وليد الفرق الشاسع بين الساحل الشمالي المزدهر بالقرب من العاصمة تونس، والمدن الجنوبية الفقيرة كبن قردان. أراد تغيير نفسه والعالم إلى الأفضل، فلو أنه ولد قبل 30 سنة، لكان شاباً يسارياً، لكن هذا الفكر خذل العالم العربي. بحث عن أجوبةٍ لأسئلته في كل المصادر الممكنة، من الإنترنت إلى الأفلام والكتب المحظورة والجرائد. في الـ14 من عمره، وبعد فترةٍ وجيزة على هجمات 11 سبتمبر، قرأ كتابات أبو محمد المقدسي، المنظّر السلفي الفلسطيني الأردني، والذي كان معلم الزرقاوي في فترة سجنهما في الأردن. قرأ وليد مقطعاً من "عقيدة ابراهيم"، يستشهد فيه المقدسي بنصوص إسلامية لتبرير واجب مناهضة الأنظمة، التي تتبع القوانين البشرية، عوضاً عن تطبيق الأحكام الدينية. وشعر وليد أن النخبة العلمانية في شمال تونس تحاول إخفاء الإسلام الحقيقي عن الشعب التونسي. ووقع وليد تحت تأثير تنظيم القاعدة واستراتيجيته الطويلة الأمد. فعوضاً عن مواجهة الأنظمة العربية بطريقةٍ مباشرة، هدفت تلك الاستراتيجية إلى إضعاف داعميهم الغربيين، أولًا عبر جرّهم للقتال في أراضي المسلمين كأفغانستان والعراق وإحباط عزيمتهم، ليتمكن المؤمنون من إحلال إماراتهم. لا يتأثر وليد عند سماع قصص عن قتل الشيعة في العراق، لأنه يعتبرهم أعداء الإسلام. افتقدت تونس العلمانية تأييد الطبقة الدينية المحلية المؤثرة في الرأي العام، ما أعطى لنهجهم الإسلامي واستيائهم من الوضع الاجتماعي المحلي شعور الثورة اليسارية. اعتقل وليد في الـ20 من عمره بسبب نشاطه السياسي، وسجن نحو سنتين. علق من معصميه حتى خلعت كتفيه، ومكث في زنزانةٍ صغيرة مع 15 سجيناً آخر، ومنعت عنهم الكتب والصلاة. كان النظام يحفر من دون علمه قبره بيديه. يقول وليد: "لقد كان النظام كحيوانٍ خائف على وشك الموت. علمنا أن الثورة آتية، فقد كنا من بدأها". وفي صباح أحد الأيام، وبعد فترةٍ وجيزة على إطلاق صراحه، غرق وليد في النوم، فأيقظته والدته وأخبرته أن الاعتصامات تملأ بن قردان. فتحت الثورة فراغاً، سارع السلفيون إلى ملئه، وقدّر عددهم بنحو عشرات الآلاف. وفي فبراير 2011، أعلنت الحكومة التونسية المؤقتة العفو العام، وأطلقت سراح آلاف المساجين السلفيين، من بينهم أبو أياد التونسي، الذي شارك في تأسيس مجموعة القتال التونسية، وفي غضون شهرين أسس أنصار الشريعة. في البداية ظهرت حركة أنصار الشريعة على أنها مؤسسة خدمة اجتماعية. توجه الشبان إلى الأحياء المهمّشة، وادعوا أنهم ناشطون في مجال الرعاية الصحية والتعليم الديني. كانت أنصار الشريعة أكثر من تنظيم، ولم يكن لها هيكلية تنظيمية واضحة. فاستناداً إلى مونيكا ماركس، استطاع التونسيون الانضمام إلى أنصار الشريعة، بمجرّد حضور اجتماعٍ أو حفلٍ لها، أو فقط عبر متابعة صفحتها الإلكترونية. يمكن تصنيف السلفيين التونسيين إما في خانة المطبقين حرفياً للنصوص القرآنية، الذين يتبعون نهجاً غير سياسي لتطبيق عقيدتهم، وإما في خانة الجهاديين الذين يدعمون العمل المسلّح. اهتم تنظيم أنصار الشريعة بالنواحي الجهادية، إلا أن بعض التقارير، كشفت أن أبو إياد أعلن أكثر من مرة أن تونس أرض للدعوة وليست للعنف، لأن النظام فيها قوي جداً، ويصعب إسقاطه. نصب الناشطون خيمهم وعلّموا النساء الطريقة الأنسب لارتداء الملابس، ودعموا مفهوم الطهارة والعفة، عبر توزيع كتيبات تظهر صورة صدفة في داخلها إشارة توقف. وفي ذروة نشوة ثورة الياسمين، انهار جهاز الأمن التونسي القمعي لفترةٍ مؤقتة، وأصبح بإمكان الشبان إطالة لحاهم من دون التعرّض للمضايقات، كما بدأت السيدات بارتداء الحجاب المحافظ أو حتى النقاب في العلن. امضت ماركس سنتين تتكلم مع مؤيدي أنصار الشريعة، فقد انضمت إلى مجموعة من الفتيات اللواتي يدرسن القرآن. نشأت ماركس في شرق كنتاكي، في عائلةٍ تتبع مذهب شهود يهوه. وتقول عن تلك الفتيات: "إنّهن لا يقرأن ما بين السطور بل يكتفين فقط بالمعنى الحرفي للكلمة. كان لديهن شيء من الثورة، فمعظمهن من عائلات انتمت سابقاً إلى حزب النهضة المحظور. لقد رأى السلفيون الشبان الإسلام المعتدل مسالماً جداً". قالت إحدى الفتيات السلفيات وتدعى مروى لماركس، إن أعضاء النهضة يعملون وفق مبدأ الأمان وليس لديهم مبادئ إسلامية. في الدورة الأولى للانتخابات، التي أجريت في أكتوبر 2001، فاز حزب النهضة بأكثر من ثلث المقاعد في البرلمان التونسي، ما جعله الحزب الأقوى في تونس. حكم الحزب من خلال ائتلاف يضم حزبين آخرين، لكن الشريحة العلمانية من الشعب التونسي أبدت مخاوفها من نوايا النهضة، الذي حسب اعتقادهم سعى إلى الهيمنة على الحكم، لاتباع أجندة أصولية كالأخوان المسلمين في مصر. وكانت نوايا النهضة في البداية غير واضحة، فقد أعلن الغنوشي وزعماء محليون التزامهم بالحقوق الديمقراطية، وتجاهلوا مرجعية الشريعة في صياغة الدستور الجديد. وفي الفترة نفسها، استقبل الغنوشي في مكتبه مجموعةً من السلفيين الشبان، وقال لهم إنهم يذكرونه بأيام شبابه. وسألهم: "لماذا أنتم على عجلة، ولماذا لا تأخذون الوقت لاستيعاب كل الأمور التي وعدتكم بها؟ هل تظنون أنّ ما أنجزتموه لا يمكن إنجازه؟". كما طلب منهم أن يأخذوا الجزائر مثالاً، إذ قام حكامها بقمع ثورة إسلامية في التسعينيات، ووضعوا المساجد تحت سيطرة العلمانية مجدداً، وتعرض الإسلاميون للملاحقة. "هل تظنون أنه من الصعب أن يحصل ذلك في تونس؟ العاقل هو الذي يحافط على مكسبه ويضعه في جيبه أو يضعه في الخزانة ويحكم إغلاقها". حين تسرّب مقطع الاجتماع إلى العلن، استغل العلمانيون تلك الهفوة، واتخذوها ذريعة لإثبات أن النهضة تلعب على الحبلين. وأكثر ما أثار القلق في الساحة التونسية، هو استيعاب النهضة لأنصار الشريعة. تقول ماركس إن مقاربة النهضة تتشابه مع الفكرة المألوفة في أوساط علوم السياسة، وهي "فرضية دمج الاعتدال". فإذا استطاع المتطرّفون الوصول إلى الواجهة السياسية، فستنجح فرضيتهم، ويستطعون إدارة مطالبهم ورغباتهم. فالاعتقاد أن الإسلام المتطرّف سيتحول إلى الاعتدال عندما يحصل أتباعه على تمثيلهم، أظهر أنه خطأ فادح. عام 2012، بدأ الوضع في تونس بالخروج عن السيطرة، عندما تعرّض أنصار السلفية إلى المساجد، وتعدوا على أصحاب متاجر الخمر، وفرضوا نظاماً للباس، وهاجموا التجمعات الثقافية. لم تحرك الحكومة، التي تخضع لسلطة النهضة، ساكناً، وكأنها أرادت إيصال رسالة، مفادها أن الإسلاميين ليسوا أعداء. وصل عدد مؤيدي أنصار الشريعة إلى 20000 في فترة ذروتها. وفي أحد أيام شهر يونيو، كان طارق كحلاوي، وهو عضو في حزب يساري شريك للنهضة في الائتلاف الحاكم يمر على الطريق السريع الخارجي للعاصمة، ورأى موكباً من الشاحنات آتياً من الضواحي الفقيرة باتجاه المرسى. كان السلفيون يجتاحون البلدة لمنع معرض للفن التونسي المعاصر، وفي اليوم التالي هاجم السلفيون مقراً للشرطة ومحاكم، في ما بدا بداية لانتفاضة جديدة. حاول الكحلاوي التواصل مع أبو إياد زعيم أنصار الشريعة، فقيل له إنه متوارٍ عن الأنظار في هذه الفترة، لكنه التقى بالناطق الرسمي للنهضة بلال شوّاشي. يقول الكحلاوي: "كانوا واثقين من أنفسهم، وصريحين. قالوا لي إنهم يجمعون أسلحة من ليبيا ويخفونها"، وحين سألهم عن السبب أجابوا: "ستعلم لاحقاً. يتوجب علينا كمسلمين أن نتسلّح". لكن قوات الشرطة اكتشفت لاحقاً مخابئ للأسلحة، معظمها على الحدود الليبية. تبع الجهاديون النهج الثوري للسلطة عن طريق السيطرة على مناطق تأييدهم. استعمل شوّاشي عبارة "كالسمك يسبحون في البحر"، وعندما ذكر الكحلاوي أن ماو ابتكر العبارة، أجاب شوّاشي: "نسعى إلى التعلم من أي مصدر". إذا فشل التمرّد في المدن فسيلجأ السلفيون إلى المناطق الجبلية ليبدأوا تمرداً عسكرياً آخر. قام سلفيون آخرون بشرح طريقتهم في تجنيد سلفيين جدد للكحلاوي، فقد التقوا بعضاً من معارفهم في الليل عندما كانوا يشربون الخمر في الشارع، وقالوا لهم: "إنها طريقة خاطئة للتعامل مع الموقف، وعليكم تغيير أسلوب حياتكم". خرق المجندون القيود الإسلامية بعدم الاختلاط بشاربي الخمر، لكنهم لا يكترثون لها. يقول لي الشعراوي: "جل ما يهتمون به هو إقحامك في الجهاد. الأمر في هذه المرحلة يتعلق بالتطبيق العملي وليس بالدين". وبعد أيام قليلة انتهت الثورة، وقال الكحلاوي إن استمرار أبو أياد في الإيمان بأنه من الممكن تجنب اللجوء إلى السلاح مع الدولة التونسية أسهم في تهدئة الوضع. بعد 3 أشهر، في ديسمبر، أدى انتشار مقطع فيديو ساخر من النبي محمد نشره شاب من كاليفورنيا إلى اندلاع تظاهرات في أنحاء المنطقة. وفي تونس، انطلقت تظاهرات معظمها سلفية، وقام المتظاهرون بالقفز على حائط السفارة الأميركية لنهبها، فحاول رجال الشرطة التونسيون منعهم، ما أدى إلى مقتل 2 من المتظاهرين، كما أحرق بعضهم مدرسة أميركية. استنكر الرأي العام التونسي الحادث، وللمرّة الأولى، قام زعماء النهضة بانتقاد السلفيين، لكن أعمال العنف لم تتوقف. في أواخر عام 2012، قال الكحلاوي لي إن أبو أياد اجتمع مع بعض رفقائه في السجن، في الضواحي الجنوبية للعاصمة، وقرروا التحول من الاستراتيجية الثورية إلى تشكيل جناحٍ مسلّح. نشط تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي لفترةٍ طويلة في جبال الشعانبي على الحدود التونسية الجزائرية. وفي ديسمبر ظهر تنظيمٌ جديد على الساحة، هو لواء عقبة ابن نفّاع، وبعد فترةٍ وجيزة قام المتمردون بالتنسيق مع قادة أنصار الشريعة بزرع الألغام ونصب الكمائن لعناصر الشرطة التونسية. وفي فبراير 2013 قتل الناشط السياسي العلماني شكري بلعيد خارج منزله، وبعد 5 أشهر اغتيل سياسي آخر يدعى محمد براهمي أمام عائلته على يد مسلحين سلفيين. صرّح أبو بكر الحكيم الجهادي التونسي المخضرم، أنه خطط لقتلهما في اعترافٍ مسجل عبر مقطع فيديو نشره تنظيم الدولة. ومع ذلك اتهم الآلاف من التونسيين الذين شاركوا في التظاهرات النهضة، بالسماح للإسلام المتطرّف بالنمو. وفي شهر أغسطس أعلنت النهضة تصنيف أنصار الشريعة كمنظمة إرهابية، وفرضت وزارة الشؤون الدينية سيطرتها على المساجد السلفية، ما أجبر جنود أنصار الشريعة على التواري عن الأنظار إن لم يتم اعتقاله. أما أبو أياد فيُعتقد أنه فر إلى ليبيا، كما لجأ بعضهم إلى جبال الشعانبي. أما البقية، ومن ضمنهم الشواشي والحكيم، فانضموا إلى التونسيين في سوريا. طغى حماس الشباب على وليد في السنتين اللتين تلتا الثورة، فانضم إلى مجموعة تونسية صغيرة، أصبحت في ما بعد منافساً لأنصار الشريعة، تدعى مؤتمر الأمّة. أسست عام 2004، كشبكة مجموعات منتشرة عبر العالم العربي. يقول وليد إن المؤتمر رفض استهداف المدنيين، وعلى عكس أنصار الشريعة، لم يكن يرفض الانتخابات، لكنه تشارك الهدف السلفي عينه وتطبيق الشريعة الإسلامية في الأراضي المسلمة. أمّنت الثورة التونسية بكل بساطة فرصةً جديدة لتحقيق هذا الهدف. يقول وليد: "أردنا أن نكون البدلاء لأي شيء، للإخوان المسلمين واليساريين والعلمانيين، واعتقدنا أن النهضة كانت نوعاً ما خاضعة، بينما كانت الدولة الإسلامية في غاية الجنون". في المراحل الأولى للحرب السورية اعتبر أن الذهاب للقتال هناك عمل جهادي عظيم، حتى أن النهضة أعربت عن موافقتها على الأمر. لم يعد وليد يحتمل الجلوس في مكانه، بينما يقوم نظام الأسد بإبادة المسلمين. وفي صيف عام 2012، توجه إلى تركيا ودخل الأراضي السورية. يقول وليد: "ذهبت إلى هناك من دون تفكير. دفعني الحماس وشغف الشباب". كما يزعم أنه ساعد في تأسيس الجناح المسلّح لمؤتمر الأمّة في حلب، واقتبس المؤتمر اسمه من مجموعة متمردين مناوئين لنظام حافظ الأسد في السبعينيات. تحالف اللواء المسلّح مع تنظيمٍ أكبر هو أحرار الشام، وكان له علاقات صداقة مع جبهة النصرة. تعرّف وليد إلى بعض الأصدقاء من سوريا والمغرب والشيشان، وشارك في المعارك، ورأى طائرات الأسد تلقي القنابل على المدنيين المصطفين للحصول على الخبز كما جمع أشلاء جثث الأطفال. وعندما عاد وليد بالذاكرة إلى تلك المرحلة من حياته في سوريا، أخرج جواله وبحث في الصور، ليتعرف إلى صديقٍ له كان دفنه، في صورةٍ تظهر مجندي اللواء وهم يحملون علماً أزرق وبنادق. أوشك وليد على البكاء وقال بصوتٍ مختنق: "عفواً"، كان القتال في سوريا إلهياً ولهدفٍ نبيل، لكنه تحوّل لمقبرةٍ للشبان المسلمين. بعد 6 أشهر في حلب لم يجد وليد أي مبرر لبقائه في سوريا فعاد إلى تونس، فربما لم يكن القتال الحل المناسب. لم يكن وليد واضحًا في تعليل سبب عودته. فقد أتى على ذكر حادثة مروعة عندما رأى العديد من رفاقه مقطعين على أيدي جنود النظام خارج حلب. كما ذكر تأسيس الدولة الإسلامية في العراق والشام، في أبريل 2013، التي انخرطت في قتالٍ مع جبهة النصرة بعد فترةٍ وجيزة. تحدث أيضاً عن أبو بكر البغدادي خليفة الدولة الإسلامية بكراهية، واتهم داعش بتدمير المقاومة السورية ودعم نظام الأسد. اعتقد وليد أن الدولة الإسلامية نشأت على يد القوى الغربية للإطاحة بالقاعدة ومجموعات جهادية أخرى. وعلى أثر عودته إلى تونس اعتقل 4 أيام، وقال للشرطة إنه ذهب للسياحة في تركيا. قامت تونس مؤخراً بمنع المواطنين ما دون الـ35 من السفر من دون موافقة الأهل. تم إطلاق سراح وليد، لكنه وضع تحت المراقبة، وكان حينها في الـ25 من عمره. أراد أن يشطب سوريا وذكرياتها من ذهنه. (التكملة في الجزء الثاني)رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين