نام متحف نقولا سرسق 7 أعوام ليستيقظ منها اليوم مكتسباً نضجاً هندسياً وفنياً وثقافياً، يخوله أن يكون أحد أهم المتاحف المعاصرة في المنطقة. هذا الحلم حققه فريق هندسي وإداري وفني، هدفه أن يعاد افتتاح متحف سرسق الحديث أمام اللبنانين، آملاً بالمساهمة في هذه النهضة العصرية التي يبحثون عنها ابتداءً من 8 أكتوبر 2015.
الفن على طريقة نقولا سرسق
تتساءلون عن أسباب إقفال متحف سرسق الشهير خلال هذه الأعوام السبعة. والجواب حصلنا عليه خلال زيارةٍ فريدة من نوعها في أرجاء المتحف، قبل أيام من افتتاحه.
متحف نقولا سرسق يخبئ في عالمه التحتي المستحدث أسرار تاريخ لبنان واكتشافات الفنون الحديثة الهندسية والثقافية، وهي نتيجة وصية رجلٍ لفظ أنفاسه الأخيرة في منزل سرسق، الذي يشكل أساس المتحف العملاق.
كانت آخر كلمات نقولا سرسق عام 1952، الرجل الذي ينتمي إلى الطبقة البورجوازية اللبنانية، والذي عشق الفن والفنانين وابتكاراتهم وأحلامهم وخيبات أملهم، أن يقدم منزله الذي لطالما احتضن ندوات أدبية وفنية فريدة من نوعها، على شكل متحفٍ.
مقالات أخرى
متحف Aishti الجديد: ما تحتاجه الساحة الفنية في العالم العربي
محمود درويش يستمر في بث الثقافة من داخل ضريحه
وهو حقق أحلام الكثير من الفنانين الذين التقاهم في حياته، مثل Kees Van Dongen وفيليب موراني، وشخصيات مؤثرة تعرف إليهم مثل زلفا شمعون، السيدة الأولى السابقة التي رافقته في أيامه الأخيرة كما يقال، أو الأصدقاء والمعارف الذين شهدوا على سهراته الصاخبة بين غرف منزله، من خلال ذلك المتحف المعاصر. نقولا سرسق، كما يحكى عنه، شخصية مثيرة للاهتمام، تلفّها الألغاز والحكايات الحرة، إلى درجة أن عائلة سرسق حرصت على إخفاء أي وثيقة أو رسالة من أرشيفه الخاص لأسبابٍ غامضة لا يعرفها أحد.
البداية ثم البداية
"لا تحتاج إلى جدران لتعلّق الفن عليها". هكذا بدأت حكاية متحف سرسق، كما سموه آنذاك “Le premier musee imaginaire”، أو متحفٌ خارج المتحف، حرص على إقامته المقربون من نقولا سرسق بعد رحيله، لأن رئيس الجمهورية السابق كميل شمعون استخدم المنزل بقرار منه، ليستقبل كبار الشخصيات السياسية لدى زيارتهم لبنان حتى العام 1961.
من هنا، كانت البداية الثانية مع إطلاق معرض الخريف في دورته الأولى، ويُعتبر من أهم عروض الفن في لبنان والمنطقة. معرضٌ حرص على امتلاك أهم الأعمال الفنية التي شاركت فيه، في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، كأرشيفٍ للفن الحديث ولتطوره الاجتماعي والثقافي. حتى الحرب لم تتمكن من قهر العروض الفنية داخل متحف سرسق، التي بقيت تقام فيه حتى العام 2008، يوم قرّرت اللجنة الحريصة على المتحف، إلباسه زياً حديثاً. 7 أعوام لاحقاً، نقف على الباحة الخارجية للمتحف القديم المرمم، نتأمل ملامحه التاريخية الراقية، قبل رؤية حفرةٍ هندسية كبيرة، أفضت بنا إلى الدهاليز السفلية، والمفاجأة كانت كبيرة.
الهرم
خضع متحف سرسق مرتين لعملية إعادة ترميم منذ افتتاحه مطلع الستينيات. الأولى حصلت خلال عقد السبعينيات على يد المهندس Gregoire Serof، الذي نقل المتحف من حالته المنزلية الحميمة إلى مساحةٍ مخولة لتكون متحفاً لعرض الأعمال الفنية. تأثر غريغوار آنذاك بنزعة السبعينيات الهندسية، فأسّس واجهة للمتحف من المدخل الخلفي، مصنوعة كلياً من الإسمنت، وابتكر مساحات كبيرة للعروض الفنية في الطابق السفلي، تتخلله فتحات ضوئية في السقف مصممة لاستقبال كم أكبر من النور الطبيعي. تلك الفتحات الشفافة أعطت اليوم مكانتها في المتحف لجدرانٍ متحركة عصرية، بإمضاء المهندس الفرنسي المتخصص بتصميم المتاحف Jean-Michel Wilmotte، وبالتعاون مع المهندس اللبناني جاك أبو خالد الذي كسب خبرةً في عالم المتاحف أيضاً، من خلال ترميم متحف الحرير في بصوص.
المرحلة الترميمية الثانية تلك صممت المتحف الجديد على شكل جوهرة نادرة بتصميمها ومضمونها، عمقها 20 متراً تحت الأرض يقف عليها المتحف، وتتخللها جميع التسهيلات الأساسية المزودة بها أهم المتاحف العالمية، من صالات عرض عصرية ومكتبة محتضنة لأرشيفٍ مهم من الفن اللبناني والعالمي، ومراكز تدريبية ومحترف لترميم الأعمال الفنية.
الجولة في الطابق السفلي للمتحف تشعركم كأنكم داخل دهاليز هرمٍ غامض التصميم، يتمايل بين التقليدي والعصري، بين الهندسة الإيطالية والنزعة العثمانية والوحي المعاصر. التدخلات الهندسية لم تمسّ روح المنزل العريقة، بل أعادت إحياءها من خلال التلاعب بالمساحات بطريقةٍ ذكية وإعادة ترميم بضعة أجزاء من المنزل. هكذا قرر المهندسان إعادة الزجاج الملون النادر إلى الواجهة، بعد أن تم إزالة جزء منها في المرحلة الترميمية الأولى. كبر المنزل خلال تلك السنوات السبع الأخيرة، من صالات عرض متعددة مساحتها 1500 متر مربع، إلى متحفٍ متكامل ومتجانس يمتد على مساحة 8500 متر مربع، ويطال البحر بجذوره الجديدة.
المعارض
المعرض الذي سيفتتح الموسم الجديد من متحف سرسق، يقدم نظرة ثقافية مميزة عن بيروت، من خلال 200 لوحة وصور فوتوغرافية وكتابات، انتقتها بتأنٍ القيّمة على المعرض سيلفيا أجيميان، من مجموعات فنية خاصة من لبنان والعالم. أتت بها إلى المتحف احتفاءً ببيروت جديدة مع الموسم الفني، الذي يعد بنهضةٍ ثقافية لم تشهدها هذه المدينة منذ زمنٍ طويل.
معرض "نظرات على بيروت: 160 عاماً من الرسوم". يرسم تطور المدينة عبر العقود، من الزمن العثماني إلى ما بعد الاستقلال، بنظرة ناقدة بناءة للتغيرات الاجتماعية والثقافية والهندسية التي عاشتها العاصمة حتى أيام الستينيات. أسماءٌ كبيرة من عالم الفن اللبناني والعالمي، أمثال خليل زغيب وSaadi Sinevi وDavid Hockney، ومجموعات فنية خاصة، منها أعمال تعود إلى مجموعة فؤاد دباس، التي لم تعرض للعلن سابقاً، مثل Manuscript of Comtesse de Perthuis من العام 1860.
“Les amours et les Jeux” لشفيق عبود
في الطوابق العليا للمتحف، معرض ثابت يقدم الأعمال الفنية التي اكتسبها المتحف منذ افتتاحه في الستينيات، منها ما تم شراؤها من فنانين مميزين عرضوا أعمالهم في معرض الخريف، ومنها ما تم إهداؤها للمتحف. نتحدث عن “Les amours et les Jeux” لشفيق عبود (1979) و“Le Mont Tamalpais” لإيتل عدنان (1985)، و“Portrait de Boutros Dagher” لـخليل صليبي (1907) وغيرها من الفنون التي تعود إلى القرن التاسع عشر والألفية الثانية.
“Le Mont Tamalpais” لإيتل عدنان
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...