الأزمات التي تعيشها تونس، وبشكل خاص وضعها الأمني المتردي، دفعت ناشطين إلى التفكير في نوع جديد من السياحة يقطع مع السياحة التقليدية ويفتح المجال لاستغلال الموروث الحضاري والجيولوجي والثقافي للبلد في استيلاد سياحة لا تقوم على ثقافة الاستهلاك بل على نسج علاقات أكثر إنسانية مع زُوار من مناطق شتى من العالم.
بعد الاستقلال، ركّزت تونس على القطاع السياحي كأحد القطاعات الحيوية في الاقتصاد الوطني، إلى جانب الثروات المنجمية جنوباً. وشكلت السياحة مع تحويلات المغتربين المصدرين الأساسيين للبلاد من العملات الأجنبية. غير أن الحال تغير كثيراً منذ بداية القرن الحالي. فقد شهدت السياحة التونسية انتكاسات متعاقبة، خاصةً بسبب التحديات الأمنية التي فرضتها التهديدات الإرهابية منذ أن أقدم شاب تونسي ينتمي إلى تنظيم القاعدة، عام 2002، على تفجير شاحنة لنقل الغاز قرب كنيس يهودي في جزيرة جربة جنوباً مخلفاً عشرات القتلى والجرحى من السياح الأجانب.مواضيع أخرى:
محاولات إنقاذ آثار الحضارة النوبية في السودان
عودة الأسواق الشعبية السعودية إلى الحياة
وزاد الوضع الأمني سوءاً بعد ثورة يناير لتضع أغلب السفارات الغربية تونس على لائحة الدول التي لا يُنصح بزيارتها. وبلغت الأزمة ذروتها بعد هجمات باردو وسوسة الأخيرة التي ستخلف، وفق تقديرات حكومية، خسائر للقطاع السياحي بنحو 515 مليون دولار هذا العام.
من رحم الوضع المستجدّ، زاد الاهتمام بالسياحة التضامنية. السائحون وفق هذا المفهوم لم يعودوا مستهلكين فقط بل هم أشخاص يحملون اقتناعات وأفكاراً ويرغبون في تبادلها مع السكان المحليين ولا يتأثرون كثيراً بالوضع الأمني غير المستقر. كما يحترم هذا النوع من السياحة البيئة والمجتمع والاقتصاد المحلي، بعكس السياحة التجارية التي تُحدث تغيّرات في محيطها تشمل العلاقات الإنتاجية والاجتماعية إلى جانب أضرارها البيئية.
ما هي السياحة التضامنية؟
يُطلق الخبراء على هذا النوع السياحي أسماء مختلفة مثل السياحة الاجتماعية، السياحة التضامنية، السياحة المسؤولة، والأخير هو الشائع. ويُعرّفها التحالف الدولي للسياحة المسؤولة بأنها كل شكل من أشكال الأنشطة السياحية التي تحترم وتحافظ، على الأمد الطويل، على الموارد الطبيعية والثقافية والاجتماعية التي تساهم، بدورها، بشكل إيجابي وعادل في تنمية وازدهار الأفراد الذين يعيشون ويقيمون في هذه الفضاءات. ترتكز السياحة المسؤولة على لقاء السائحين بالسكان المحليين وتساهم في إشاعة التفاهم والاحترام المتبادل بين الناس.
ووفقاً لشبكة السياحة التضامنية العالمية، تولي السياحة التضامنية أولوية قصوى للسكان المحليين وتُشركهم في مختلف مراحل المشروع السياحي، وتحترم ثقافاتهم. وتتطلب مشاريعها تعاون المجتمع المدني مع السائحين.
عربياً، بدأ المجتمع المدني وبعض الجهات الحكومية خلال السنوات الأخيرة يسعون إلى إعطاء مكانة أكبر للسياحة التضامنية خاصة في تونس والمغرب وبعض دول الخليج كالإمارات وسلطنة عمان. لكن ذلك يبقى دون المستوى المطلوب ولا يستطيع منافسة السياحة التجارية التي تقف خلفها مؤسسات كبيرة وتدُرّ مداخيل مالية طائلة. وهذا ما يجعل من السياحة البديلة نوعاً من الهواية.
ما معنى أن تكون سائحاً مسؤولاً؟
حبيب بلهادي، طبيب أسنان تونسي، مهتم بالسياحة التضامنية إلى جانب مهنته، ويترأس جمعية "ذاكرة الأرض" الناشطة في هذا المجال. هو أحد رواد هذا النوع السياحي في تونس وتربطه علاقات مع نشطاء من قارات الأرض الخمس لديهم اهتمام بتعزيز ونشر ثقافة السياحة البديلة. يتخذ بلهادي من جبال أقصى الجنوب التونسي مجالاً لنشاطه.
قال لرصيف22 إنه وجد نفسه في بداية سبعينيات القرن الماضي طبيباً وحيداً في مدينة تطاوين، في أقصى الجنوب التونسي، وكانت يومذاك بلدةً صغيرةً نائية، لكنها قد سحرته بطبيعتها الاستثنائية التي تجمع الجبل بالصحراء والعرب بالأمازيغ، وتحافظ على طابعها القديم. وأضاف: "بدأت منذ ذلك الوقت أهتم بالتراث والآثار وعادات القبائل الدينية والثقافية واللغات المحلية المندثرة، حتى أنني قررت بناء بيت خاص في المدينة من المواد الطبيعية وجهزته بالتحف التراثية والقطع النادرة ليتحول إلى متحف طبيعي، استغلته في وقت من الأوقات السلطات المحلية في إطار برنامجها السياحي".
واعتبر بلهادي "أن الهوس بالسياحة التجارية وموجة تشييد الفنادق التجارية في تونس منذ ستينيات القرن الماضي أضرّ كثيراً بالوسط الطبيعي والبيئي وحوّل الثروة التراثية والأثرية إلى مجرد فولكلور وقطع جامدة للعرض. وفي المقابل لم يحقق هذا الاهتمام الدخل المأمول لأنه كان دائماً موجهاً إلى سياحة الجماهير، الرخيصة الثمن، وليس إلى السياحة النوعية".
هذا الواقع هو ما دفع الطبيب، مع مجموعة من الناشطين في المنطقة، إلى تأسيس جمعية "ذاكرة الأرض" التي تنطلق من الجنوب التونسي ومهمتها نشر ثقافة السياحة التضامنية "من خلال التعريف بالمخزون التراثي والطبيعي والجيولوجي والثقافي لهذه المنطقة الغنية والمنسية". نسجت المجموعة الناشئة علاقات متميزة مع ناشطين من أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا، "من خلال تنظيم رحالات وملتقيات وورش عمل ومهرجانات للموسيقى والفنون".
فندق محفور في صخرة
أسس بلهادي مشروعاً سياحياً تجارياً، هو عبارة عن فندق صغير، طبق فيه عملياً ما تدعو له السياحة المسؤولة من احترام الخصوصية الثقافية للسكان المحليين والمحافظة على البيئة وإدماج السكان المحليين في الدورة الاقتصادية من خلال تشغيلهم بشكل مباشر في المشروع أو بطريقة غير مباشرة من خلال تحويل المنطقة إلى قبلة للسائحين.
عن فندقه المحفور في صخور جبال بلدة "شنني" الأمازيغية التابعة لمحافظة تطاوين، قال بلهادي: "بعد سنوات من النشاط المدني والثقافي الرامي إلى نشر ثقافة السياحة التضامنية، قررت عام 2007 إنشاء فندق سياحي صغير أطبق فيه كل ما تعلمناه في مجال السياحة التضامنية. فألزمنا أنفسنا بتشييد الفندق بالمواد الطبيعية الموجودة في المكان دون استخدام أيّة مواد صناعية حفاظاً على البيئة، خاصةً أن موقع الفندق كان وسط مدينة شنني التاريخية. أما الغرف فكانت على شاكلة الغرف التقليدية في البلدة، فهي غرف محفورة داخل صخور الجبل وتحافظ على درجة حرارة ونسبة رطوبة مقبولتين وبشكل طبيعي كما هو الحال في المعمار القديم بتطاوين، وقد ابتكرها السكان القدامى للتأقلم مع الظروف المناخية الصعبة".
وأضاف: "اعتباراً من عام 2010، بدأنا العمل فعلياً بطاقم من 10 موظفين وبطاقة إيواء من 30 سريراً، واخترنا له إسما تونسياً مميزاً هو "كنزة". صحيح أن المشروع صغير ولكنه أثبت إمكانية إيجاد تطبيقات عملية للسياحة التضامنية وأنها ليس نوعاً من التسلية التي يقوم بها بعض النشطاء. فعلاً هي تبدأ كهواية وتهدُف إلى التسلية، ولكن يمكن أن تتحول إلى مورد رزق جيّد لكثير من الشباب العاطل عن العمل. فنحن نشغّل 10 موظفين كلهم من أبناء البلدة".
ولفت إلى أن مشاريع كهذه "تلعب دوراً كبيراً في الترويج للسياحة بشكل عام كما أن أغلبية السائحين الذين يأتون إلى هنا تنتمي إلى فئة واعية فكرياً وثقافياً كالباحثين والنشطاء في المجتمع المدني والمستكشفين وغيرهم".
وعن الحوادث الإرهابية الأخيرة التي استهدفت القطاع السياحي في تونس ومدى تأثيرها على تدفق "السياح المسؤولين"، قال بلهادي إن "الحوادث الإرهابية تؤثر بشكل كبير على السياحة التجارية، وهذا ما نلمسه اليوم بعد هجومي باردو وسوسة، ولكن السائح التضامني يصبح أكثراً إصراراً على المجيء تضامناً مع رفاقه هنا، فالعلاقة بين المهتمين بالسياحة التضامنية في العالم لا تحكمها المصلحة التجارية بل العلاقات الإنسانية الراقية".
نشر الموضوع على الموقع في 27.07.2015
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 4 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت