منذ سنوات قليلة، راح الجنوب التونسي يشهد تغيّرات بدّلت مكانته في تونس، خاصةً بعد أن بدأت بعثات علمية متعاقبة تكتشف في باطنه مخزوناً جيولوجياً وأثرياً كبيراً، جعله ذاكرة مصغرة للأرض.
قبل ذلك، كانت لعنة المناخ تلاحق الجنوب، وكانت السلطات المتعاقبة على البلاد تنفي إليه كل من يعصاها. وحين احتل الفرنسيون تونس، نهاية القرن التاسع عشر، حوّلوه إلى منطقة عسكرية مغلقة وشيّدوا فيه معتقلاً قضى فيه قادة الحركة الوطنية جزءاً من حياتهم النضالية.ولكن منذ بضعة أعوام، بدأت لعنة الجغرافيا تتحول إلى نعمة. فبعد أن أصبحت المنطقة مصدراً للنفط والمعادن والجبس والمساهم الأكبر في الدخل القومي، أتت الاكتشافات الجيولوجية لتصبّ الاهتمام عليها.
البحث عن هياكل الديناصورات
منذ ثمانينيات القرن الماضي، بدأت حركة الاستكشافات الجيولوجية في المنطقة، وتسارعت خلال السنوات الأخيرة حتى أصبحت قبلةً لعلماء الجيولوجيا من كل مكان، بحثاً عن هياكل الديناصورات المتحجرة والفصائل النادرة منها. هذا الأمر شجع كثيراً حركة السياحة الثقافية والعلمية وخلق أشكالاً جديدة من السياحة التضامنية أو المسؤولة.
ففي العام الماضي، اكتشف فريق علمي تونسي-إيطالي هيكلاً عظمياً يعود إلى ديناصور من فصيلة نادرة في محافظة تطاوين، جنوب شرق البلاد، وهو اكتشاف مهم جداً لمعرفة حلقة الوصل المفقودة في سلسلة التطور بين الطيور والزواحف.
قبل ذلك، عثر باحثون عام 2010 على آثار خطوات للديناصور العاشب واللاحم في جبل قريب من قرية شنني، ويرجع تاريخ وجوده إلى ما بين 90 و100 مليون سنة خلت.
جنوب تونس إلى واجهة الاهتمام
عام 1910، وصل إلى أقصى الجنوب التونسي العالم الجيولوجي الفرنسي برفنكيار مرسلاً من الإدارة الاستعمارية الفرنسية لدراسة الحالة الجيولوجية للمنطقة ورسم خارطتها الطبيعية.
مقالات أخرى:
الحلزون التونسي يملأ الموائد الأوروبية
القصور الصحراوية في تطاوين التونسية حيث صُوّر فيلم Star Wars
كانت السلطات الفرنسية يومذاك تلهث وراء استنزاف المقدرات الطبيعية وتبحث عن الفوسفات والجبس والمعادن الثمينة. عمل برفنكيار في إطار بعثة استكشافية وضعت في آخر رحلتها خارطة دقيقة لجيولوجيا المنطقة ورجّحت في تقريريها إمكانية وجود أحافير تعود للحقبة الثانية من العصور الجيولوجية. وكانت هذه المعلومة العرضية في التقرير أول إشارة إلى وجود كنوز أحفورية في جهة تطاوين.
لاحقاً، شهدت المنطقة عام 1930 سقوط نيزك حمل إسم "نيزك تطاوين"، واهتم به جنود في الجيش الفرنسي كانوا من هواة جمع الأحجار ونقلوا بقاياه إلى متحف تاريخ العلوم الطبيعية في العاصمة الفرنسية باريس. شكل هذا الحدث بداية الاهتمام الغربي الجاد بالمنطقة لجهة اعتبارها خزاناً جيولوجياً وأثرياً نادراً وخصباً.
وعام 1956 نالت تونس استقلالها وانغمست الدولة الوطنية الوليدة في مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية وغرق أقصى الجنوب في شبه نسيان، عدا اهتمام الدولة بالثورة النفطية ذات العائدات المالية السخية.
بدء عمل البعثات الوطنية
مع بداية سبعينيات القرن الماضي، قرر الديوان التونسي للمناجم الالتفات إلى المخزون الجيولوجي في الجنوب، وأرسل بعثات بحث واستكشاف من أجل التدقيق في الخارطة الجيولوجية اليتيمة التي وضعها العالم الفرنسي برفنكيار.
خلال هذه الفترة، عثر العلماء التونسيون على بقايا هيكل عظمي لديناصور، هي عبارة عن أسنان وبقايا عظام الأطراف في بلدة غمراسن، غرب محافظة تطاوين. البقايا تعود إلى ديناصور من فصيلة سبينوصور Spinosaurus وهو نوع عاش قبل قرابة 95 مليون سنة واستوطن منطقة شمال إفريقيا.
آنذاك، كانت النظرية السائدة هي أن هذه البقايا جلبتها إلى المنطقة السيول والمياه ولم تنشأ الديناصورات في إفريقيا جنوب الصحراء ومصر وليبيا والجنوب التونسي ولم تستوطنها، وذلك باعتبار أن المنطقة كانت خلال الحقبة الجيولوجية الثانية تتميز بالخصوبة كونها عبارة عن دلتا تصب فيها مياه سطح "الهُقار" جنوب الجزائر. وقد بقيت هذه النظرية سائدة حتى عام 2012، وفقاً للباحث في تاريخ المنطقة الحبيب بلهادي.
دور المجتمع المدني
منذ منتصف التسعينيات، بدأ المجتمع المدني يوجه اهتمامه إلى المخزون الجيولوجي للمنطقة، الطبيعي منه والمنجمي باعتبار أنه يمكن أن يشكل عائدات مادية محترمة لمنطقة مهمشة كالجنوب، وأيضاً المخزون الأثري الذي يمكن أن يشكل منتجاً سياحياً ثميناً إلى جانب قيمته التاريخية والثقافية والرمزية.
عن هذا الدور، قال الطبيب التونسي والباحث في التاريخ، الدكتور الحبيب بلهادي، مؤسس جمعية "ذاكرة الأرض" لرصيف22: "خلال هذه الفترة تشكّل تحالف بين مجموعات بحثية وهواة من المجتمع المدني لبلورة وعي جديد في شأن الإمكانات الطبيعية والثقافية التي يحتوي عليها الجنوب. فنظمنا عام 1995 مؤتمراً دولياً حول التراث الجيولوجي بحضور خبراء أجانب، بينهم عالم الجيولوجيا الفرنسي إيريك بيفتو، عضو الأكاديمية الفرنسية والذي تحمس كثيراً للعمل معنا، ولنا أن نعتبره الأب الروحي للاكتشافات الجيولوجية في المنطقة".
وأضاف أن "المجتمع المدني أخذ بزمام المبادرة بالتعاون مع الجهات الرسمية نظراً للحساسية التي يتميز بها مجال الآثار. وعام 1999 أسسنا رسمياً جمعية علمية للعمل المنظم في استكشاف وتثمين المخزون الجيولوجي للمنطقة، وأطلقنا عليها إسم "ذاكرة الأرض" وعياً منا بأننا نشتغل على موروث إنساني يهم كل سكان الكوكب".
وتابع: "وسّعنا مجالات التعاون مع باحثين وهواة من جهات الأرض الأربع. وعام 2006، عقدنا اتفاقاً مع فريق جيولوجي من جامعة بولونيا الإيطالية من أجل تشكيل فرق استكشاف مشتركة وانطلقنا في العمل سعياً لإيجاد أحافير وهياكل مكتملة لديناصورات عاشت في المنطقة".
اكتشاف "تطاوين هانيباليس"
وكانت النتيجة أنه بعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ اكتُشفت آثار أقدام تعود إلى ديناصور في بلدة شنني جنوب غرب تطاوين. وعلّق بلهادي أن "هذا الاكتشاف بعث فينا أملاً جديداً وقادنا عام 2012 إلى اكتشاف هيكل عظمي كامل لديناصور في جبل "طويل المراع" في منطقة "بئر عمير" جنوب تطاوين، وذلك على يد الجيولوجي الإيطالي فريدريكو فانتي. وكان الهيكل يرقد منذ قرون فوق مرتفع رملي أطلقنا عليه اسم "تطاوين هانيباليس" ويصل طوله الى 25 متراً. وتواصل لاحقاً الحفر في الموقع حتى أُعلن هذا الكشف التاريخي عام 2014".
لم يكن "تطاوين هانيباليس" مجرد هيكل عظمي لديناصور، بحسب بلهادي، "بل كشفاً علمياً كبيراً. فقد كشفت الدراسة البيولوجية للهيكل أنه يحمل تجاويف في قطعه العظمية تعود ربما إلى استخدامها في خزن الهواء، بما يوحي أن وزنه كان خفيفاً برغم كبر حجمه على خلاف الأنواع الأخرى".
أهمية ذلك، والكلام لبلهادي، هي أن هذا يقود إلى الترجيح بأن هذه الفصيلة النادرة كانت حلقة الوصل المفقودة في سلسلة التطور بين الطيور والزواحف. فالطيور تحتاج إلى عظام خفيفة الوزن كي تتمكن من الطيران. وهذا يقود إلى الجزم بأن هذه الديناصورات ليست وافدة إلى المنطقة أو عابرة بل نشأت هنا، ما ينسف النظرية السائدة منذ سبعينيات القرن الماضي.
وختم بلهادي بالإشارة إلى الدور الحاسم الذي لعبه المجتمع المدني في هذه الاكتشافات. وقال: "لو تركنا الأمر للجهات الرسمية لما وصلنا إلى هذه الإنجازات. فالدولة وحدها لا تستطيع القيام بكل شيء خاصة أن عليها أداء مهمات ضرورية تتعلق بالأمور الحياتية للناس. أما الشأنان الثقافي والعلمي فيجب أن يوكل أمرهما إلى العمل المدني، وطبعاً بمساعدة الدولة ودعمها من خلال التسهيلات وتخفيف البيروقراطية وتشجيع المبادرات".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...