يُمكننا القول بلا مبالغة إن سور الأزبكية، أقدم سوق للكتب في مصر، ساهم في تشكيل وعي المصريين، على مدار سنوات طويلة، رغم ما طاله من مضايقات أمنية أدت إلى نقله مرات عدّة من مكانه الأصلي بجوار حديقة الأزبكية العريقة. ويمكننا القول أيضاً إن شارع العزيز بالله، في منطقة حلمية الزيتون، يقوم بدور مغاير تماماً للدور الذي يقوم به سور الأزبكية.
فالنهضة الثقافية التي ساهم "السور" في تحقيقها، وتحديداً في حقبة الستينيات من القرن الماضي، يبددها حالياً "سوق العزيز بالله" على مهل، عبر ما يموج به من مكتبات يقتصر نشاطها على بيع كتب يصفها الكثيرون بالتكفيرية.
رصيف22 قام بزيارة ميدانية إلى سور الأزبكية والعزيز بالله لرصد الاختلافات بينهما، والتي تُبرز ما شهدته مصر من تحولات ثقافية واجتماعية، يرى البعض أنها بمثابة ردة عن الخصوصية الثقافية المصرية.
المعرفة مشاع في سور الأزبكية
مكتبات خشبية ذات طراز موحد وفريد تزخر بكتب عن تاريخ الثقافة المصرية، روايات لكبار الكتاب المصريين والعالميين، كتب دراسية تُقبل عليها الأسر المصرية لأسعارها الزهيدة، قواميس لمختلف لغات العالم، كتب ضاربة في القدم ربما يصل عمرها إلى أكثر من 150 عاماً، وأخرى تُعد نادرة لا توجد في أفخم مكتبات القاهرة، مؤلفات في علم النفس والفلسفة والفلك والرياضيات والميتافيزيقا.
مواضيع أخرى:
الشيعة في مصر: شعور بالاضطهاد وطموحات اجتماعية وسياسية
الإخوان المسلمون تنظيم إرهابي أم جماعة ديمقراطية؟
هنا في "سور الأزبكية" تتجسد مقولة "المعرفة مشاع". فالفقراء يُمكنهم أن يكوّنوا مكتبات خاصة بهم من هذا السور الذي يمتلىء بالكتب القيّمة والرخيصة. وهنا من الممكن أن تجد مثلاً كتاباً عن ثورة 1919 بـ3 جنيهات (أقل من نصف دولار) فقط لا غير، بل ستجد بعض الكتب التي لا يتجاوز ثمنها الجنيه الواحد.
كتب تكفيرية ومحالّ إسلامية
التنوع والانفتاح على عالم المعرفة والثقافة في سور الأزبكية يقابلهما الجمود والانغلاق في مكتبات شارع العزيز بالله. فالشارع ذو المساحة الشاسعة يمتلىء بالكتب الدينية أو بالأحرى الكتب الإسلامية المتشددة، ومنها كتب لابن تيمية، وابن القيم، وكتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب. وعلى النواصي يعرض الباعة مطبوعات من قبيل: حصن المسلم، أدعية الصباح والمساء، مؤلفات للدعاة محمد حسان ومحمد حسين يعقوب ووجدي غنيم، وكتب أخرى عن الحجامة والعلاج بالقرآن، وفوائد بول الإبل.
يجاور تلك الكتب الأسوكة (جمع سواك وهو عود يستخدم لتنظيف الأسنان)، العطور، السبح. ليس ذلك فقط بل إن شارع العزيز بالله يزخر بمحلات الأزياء الإسلامية، ومحلات الأزياء السعودية. أسماء المحلات والمكتبات هي من قبيل المؤمنة، المسلمة، ذات النطاقين، السلف الصالح، والتقوى. كما يمتلىء الشارع بالمراكز الإسلامية التي تعد المقار الرئيسية للمتشددين دينياً وبالجمعيات الخيرية التي تستقطب بعض الفقراء مقابل منحهم متطلبات معيشية.
يبدو أن القائمين على هذا الشارع ينتهجون استراتيجية محددة تهدف إلى غرس بذور التشدد في عقول الجيل الناشىء. فالشارع الذي يشهد تمركز أعضاء الجماعات الدينية المتشددة توجد فيه مدارس دينية كمدرستي الجامعة الإسلامية والتقوى. ويُعد مسجد العزيز بالله الذي يقع في قلب الشارع أحد أهم معاقل التطرف في مصر، فمنه خرج التنظيم الإرهابي الذي عُرف بتنظيم الزيتون. ويتردد إلى المسجد كبار شيوخ السلفية لإلقاء المحاضرات الدينية. وكان قد أسسه الدكتور محمد جميل غازي، أحد أهم قيادات السلفية، عام 1968، وهدف إلى نشر الفكر السلفي في مصر. هنا في شارع العزيز بالله، أنت خارج نطاق القاهرة، فلا يوجد ما يثبت أنك تتجول في شارع من شوارع مدينة تميزت بقوتها الناعمة.
معرض دائم للكتاب
يجلس الرجل الثمانيني الحاج محمود الصعيدي داخل مكتبته، بجلبابه البلدي، ممسكاً بجريدة يتصفحها بتمعن. رحب بنا ودعانا للجلوس. عند سؤاله عن تاريخ السور، قال: "سور الأزبكية يُعد معرضاً دائماً للكتاب في قلب القاهرة، وقبلة للمثقفين المصريين والعرب. لا يُنافسه في تفرده إلا ضفاف نهر السين في فرنسا، إذ يشتركان في تقديم الثقافة للباحثين عنها بمبالغ زهيدة. للسور قصة عجيبة، إذ بدأ بمجموعة من باعة الكتب القديمة، كانوا يتجولون على مقاهي وسط المدينة، وفي وقت الظهيرة كانوا يتجمعون في ميدان الأوبرا في العتبة للاستراحة تحت ظل الأشجار، ومن هنا صاروا يعرضون كتبهم في شارع يفصل بين حديقة الأزبكية والأوبرا القديمة، وكان ذلك عام 1907. واجه الباعة الكثير من المشكلات، وكانوا دائماً يتعرضون لملاحقة الأمن وذلك لقربهم من الأوبرا الملكية، إلا أنهم تمسكوا بمكانهم، إلى أن قامت ثورة 1952 وأنشأ الرئيس جمال عبد الناصر أكشاك ومكتبات مرخصة لهؤلاء الباعة، وشهدت هذه الفترة المجد الحقيقي لسور الأزبكية، حيث كان زاد كبار الكتاب والمثقفين، ومن ثم نستطيع القول إن السور ساهم بدور كبير في النهضة الثقافية التي شهدتها الحقبة الناصرية. كما أن السور له شهرة عالمية كبيرة، فالكثير من المستشرقين الذين أقاموا في مصر كانوا يأتون لشراء الكتب من هنا، أذكر منهم المستشرقين الفرنسي ريشار جاكمون والإسباني خوان غويتيسولو".
جاء العم محمود من صعيد مصر وهو في الخامسة عشرة من عمره، وفي قلبه حب جارف للكتاب. ولذلك لم يمتهن طوال سنوات عمره أي مهنة أخرى، مهما كان الحال يضيق به. لم يُكمل الرجل المسن دراسته، لكنه أكّد أنه قارىء نهم في شتى مجالات المعرفة. وأضاف: "أعشق القراءة منذ صغري، ووجودي هنا في سور الأزبكية بين هذا الكم وهذه النوعية من الكتب، رسخ هذا العشق. المكسب ربما يكون بسيطاً مقارنة بالمهن الأخرى، لكنني سعيد بجلوسي وسط الكتب. أمنيتي ألا أموت قبل أن أقرأها كلها".
الفرق بين سور الأزبكية والمكتبات الأخرى
في جوار العم محمود، يجلس الرجل الستيني العم علي في مكتبته التي تزينها الكتب القديمة والنادرة. بفخر، تحدث عن مهنة بيع الكتب التي ورثها عن أجداده، وقال: "مهنة بيع الكتب من أرقى المهن، زبونها مختلف، لأنه في الغالب إنسان يبحث عن الثقافة والمعرفة، ومن هنا أنت تتعامل مع مستوى راقٍ من البشر. ولبيع الكتب في سور الأزبكية مذاق خاص، فهناك فرق كبير بين السور وأي تجمع آخر لبيع الكتب".
يتكون السور من 150 مكتبة، تحوي كتباً ومؤلفات تتناول شتى فروع المعرفة، وهو الأمر الذي لا يتحقق في أي مكان آخر. وأضاف العم علي أن "المثقفين العرب يأتون إلى السور بشكل منتظم ليحصلوا على الطبعات القديمة من الكتب النادرة"، مشيراً إلى أن "السور فيه الكثير من الكنوز التي يحتفظ بها في مكتباته صغيرة الحجم، كبيرة القيمة".
وحدثنا الرجل الستيني عن الأعمال الروائية المفضلة لديه، وقال إنه عاشق لرواية "الصغيرة دوريت" لتشارلز ديكنز. يأتي بها الرجل من أرفف مكتبته، ويتصفحها، ويعلّق عليها: "استطاع ديكنز أن يحلل المجتمع الإنغليزي بكل طبقاته من المهمشين، والطبقة الوسطى، وبداية الطبقة البرجوازية، والطبقة الأرستقراطية". ثم يتناول كتاباً آخر عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ممتدحاً فترة حكمه، ومعتبراً أنها "الحقبة التي شهدت الثقافة التنويرية الحقيقية".
أما في شارع العزيز بالله، فليس سهلاً الحديث مع أصحاب المكتبات، بل من المستحيل أن يتحدثوا مع صحافية تحمل كاميرا وتسير في الشوارع من دون غطاء رأس. حين وصلنا إلى نهاية الشارع، صادفنا إحدى البائعات المنقبات فوافقت على الحديث مقابل الشراء منها.
قالت السيدة الخمسينية: "آتي إلى هنا منذ 10 سنوات. هذا الشارع كان يُشبه شوارع المملكة العربية السعودية، لكن حالته تدهورت الآن، بسبب المضايقات الأمنية التي يتعرض لها أصحاب المحلات والمكتبات، خصوصاً بعد أن أصبح الشارع يشهد الكثير من المسيرات الإخوانية، إذ يتجمعون في مسجد العزيز بالله ويعتبرونه نقطة التقاء يمكن التحرك منها ناحية قصر القبة، أو الاتحادية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...