غالباً ما تكون رواتب المسؤولين في العالم، والامتيازات الممنوحة لهم، مرتفعة "تحصيناً" لهم من الوقوع في الرشوة، وحفاظاً على "أمانتهم". هذا على الأقل ما يقال. ولكن من يستطيع أن يقدّر فعلياً ما ينبغي أن يتقاضاه مسؤول في الدولة، رئيساً كان، وزيراً أو نائباً؟ كيف نحدّد إن كان ما يكسبه رئيس الدولة التي ننتمي إليها منطقياً؟ أو إن كان ما يجنيه النائب آخر كل شهر يتوافق مع ما يبذله من مجهود؟ أياً يكن حجم المبلغ، لا مفر من الحكم عليه، وقياسه، وفقاً لما يكسبه المواطن العادي.
النائب اللبناني مثلاً، المنتخب من الشعب، يتقاضى عشرة أضعاف ما يكسبه لبناني متوسط. يحظى النائب، إضافة لراتبه، بـ "معونة اجتماعية" شهرية تقارب ألفي دولار، أي 20٪ من معدل حصة اللبناني من الناتج المحلي الإجمالي السنوي! وهو يبقى يتقاضى ما بين 50 و75 % من مخصصاته تلك حتى مماته، وما بعده. 128 نائباً لبنانياً في الخدمة، ومئات غيرهم خارج الخدمة اليوم، إضافة الى الوزراء والرؤساء الذين تعاقبوا على السلطة، يكلّفون الخزينة اللبنانية سنوياً، والمواطن اللبناني، ما يتخطى 60 مليون دولار وفق دراسة صادرة عن الدولية للمعلومات. أما النائب الفلسطيني فيتقاضى 3000 دولار شهرياً، والرئيس ضعف هذا المبلغ، في دولة لا يتخطى معدل ناتجها المحلي الإجمالي للفرد 1400$. كل المناصب الرسمية، رئاسية، وزارية أو نيابية، لا تنقطع رواتبها حتى الممات (بنسبة تتراوح بين 50 و80% وفقاً لمدة الخدمة). لا يختلف الوضع كثيراً في معظم الدول العربية، وفي دول كثيرة حول العالم تعدّ في "المفهوم الشعبي" أكثر ديمقراطية وشفافية.
الوسيلة المعتمدة غالباً لقياس حجم التفاوت بين ما يتقاضاه مواطن ومسؤول تقوم على مقارنة مخصصات هذا الأخير بمعدل الناتج المحلي الإجمالي للفرد. برغم أهمية ما تظهره هذه المقارنة بشكل عام، غير أنها تبقى قاصرة عن إعطاء صورة واقعية عن التفاوت الفعلي بين المواطن والمسؤول. لا سيما إذا ما ارتكزنا على المقاربة التي تعتبر أن سبب شقاء المجتمعات بشكل عام، لا يتوقف على حجم ناتجها المحلي الإجمالي أو نموها الاقتصادي، بل على حجم التفاوت بين مختلف أفرادها، أو بعبارة أدق، على نسبة المساواة أو اللامساواة فيها. وفقاً لهذه المقاربة، كلما زالت الفوارق بين مداخيل مختلف أفرد المجتمع، كلما تحسنت أحواله، أياً تكن نسب هذه المداخيل الفعلية.
من هنا، قد يكون من الجيد الاستناد إلى عامل جيني Gini، المقياس الأكثر شيوعاً في تحديد مدى عدالة توزيع الدخل القومي بين الأفراد، للحكم على رواتب المسؤولين. يتقاضى النائب في المملكة العربية السعودية مثلاً 84000 $ سنوياً، والنائب في الولايات المتحدة 174000 $، أي خمس مرات ضعف الناتج المحلي الإجمالي للفرد في كلا الدولتين، غير أن عامل جيني، أو نسبة المساواة في توزيع الدخل، تجعل من المملكة العربية السعودية أفضل حالاً من الولايات المتحدة. أن يكون راتب النائب في النرويج 10 أضعاف ما يتقاضاه نائب هنغاري، لا يعني أنه أكثر بزخاً، لأن توزيع الدخل في النرويج، ببساطة، أكثر عدالة من هنغاريا.
ليتقاضَ المسؤولون المبالغ التي يشاؤونها، شرط أن يعملوا على إزالة الفوارق بينهم وبين المواطنين، لا أكثر.
تم نشر هذا المقال على الموقع بتاريخ 05.08.2013
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...