يطرح عبد العزيز بركة ساكن في روايته الجديدة "الرجل الخراب"، موضوع اندماج المهاجر العربي في المجتمع الأوروبي، والصعوبات التي يعانيها جراء ذلك، بسبب الاختلافات الكبيرة بين ما نشأ عليه من عادات وتقاليد، وما هو مضطر لقبوله في المجتمع الجديد.
وعلى الرغم من أن هذا الموضوع نوقش كثيراً في الرواية العربية، فإن رواية "الرجل الخراب" تطرحه بطريقة مختلفة وخاصة، على مستوى الشكل الفني الذي كتبت به، والذي يشكّل نقطة التميّز الكبرى فيها.
بطل الرواية درويش ولد في السودان لأب سوداني وأم مصرية، طاردته لعنة الانتماء منذ كان طفلاً، بعد أن رفض مدير المدرسة الابتدائية في مصر تسجيله لأنه "أجنبي". من هذه الحادثة وُلد سؤال الهوية، الذي سينمو ويكبر مع الوقت ليقضّ مضجع درويش، ويؤرقه.
مقالات أخرى
مراجعة لرواية "حارس حديقة المحبّين"
"نهج الدباغين"، سوق الكتب التونسية الشهيرة، مهدّد بالزوال
"ولكن الأسرة انتقلت إلى إحدى قرى أسوان، وهو في المرحلة الابتدائية بعد أن توفي والده، إذ امتهنت أمه الزراعة في أرضٍ ورثتها من أبيها، لذا كان خليطاً معقولاً من الثقافتين، ولو أنه كان هجيناً مربكاً في كثير من الأحيان، خصوصاً عندما يأتي سؤال الهوية، الذي أطل برأسه منذ دخوله المدرسة كسوداني، لأن قانون الجنسية المصري لا يعترف بالأطفال الذين هم من أب غير مصري".
ولأن الوسيلة الدفاعية الأولى لأي شخص لديه هذا الارتباك في الهوية، هي أن يبحث عن جماعة ينتمي إليها، فإن درويش سينتمي أيام دراسته الجامعية إلى جماعة إسلامية متشددة، لكنه سرعان ما يتركها إلى غير رجعة، بعد أن يقبض عليه الأمن.
غير أن هذه الفترة القصيرة من حياته ستترك آثارها على شخصيته، ومفاهيمه، خصوصاً بعد أن يهاجر إلى النمسا ويستقر فيها.
تتطرق الرواية في أحد فصولها إلى الآثار الناجمة عن التعصبات العرقية، من خلال شخصية ناديا وهي فتاة من راوندا، تنتمي إلى أقلية "التوتسي"، التي ترزح تحت سيطرة الأكثرية الراوندية "الهوتو". وقد تعرضت هذه الأقلية إلى الكثير من التصفيات والمضايقات، ما أجبر بعض المنتمين إليها أن يهجروا أرضهم ويسافروا.
يلتقي درويش ناديا في طريق هجرتهما غير الشرعية إلى النمسا، وتروي له ما شاهدته وما تعرضت له من عذابات في طريقها. هكذا تضيء الرواية على مجموعة من القضايا الشائكة، كالهجرة غير الشرعية، وتهريب البشر وما يعتريها من مخاطر، تصل في بعض الأحيان إلى الوقوع في أيدي بعض العصابات التي تتاجر بأعضاء البشر.
بعد أن يصل إلى النمسا، يحاول درويش الاندماج في المجتمع الجديد، يغيّر اسمه إلى هاينرش، يجد عملاً لدى سيدة مسنّة، يكون مسؤولاً عن الاعتناء بكلابها. يتزوج ابنتها نورا للحصول على الجنسية، ويجاهد لقطع علاقته بالماضي، وبكل ما يمتّ إليه، محاولاً أن يتبنى قيم المجتمع الأوروبي وثقافته. "إلا أن درويشاً أو هاينرش منذ أن قدم إلى النمسا في تسعينيات القرن الماضي، قد قطع علاقته بكل ما هو مسلم وعربي. (...) قد لا يريد أن يورّط نفسه في تحمّل ما يقوم به المسلمون والعرب في شتى أنحاء العالم من خير وشر، ولكنه أيضاً كان يفضّل أن يبدأ حياته من جديد، من دون تاريخ، تماماً من دون أي تاريخ".
يكتب بركة ساكن روايته معتمداً على استخدام تقنيات جديدة، فيُدخل نفسه ككاتب إلى هذه الرواية في عملية السرد، ويُدخل الراوي أيضاً، مبيّناً الفرق بينهما، والحدود التي تفصل أحدهما عن الآخر، وكيف أن الراوي يتمرد عليه في كثير من الأحيان، ويأخذ النص إلى أماكن أخرى لا يريدها الكاتب.
فيُدخل القارئ في لعبة ممتعة من المناوشات بين الاثنين، "حسناً، أشعر الآن برغبة الراوي في التوقف عن السرد قليلاً، وهذه مشكلة الرواية في هذا العصر، بعدما استطاع الرواة، الذين كانوا في الماضي شخصيات ورقية هلامية من صنع مخيلة الكاتب، أن يسيطروا على مصائر الأعمال السردية، وتكون لهم كلمتهم ووجهة نظرهم، (...) لقد أصبح الرواة سلطة فوق سلطة الكاتب الذي كان يظن نفسه الخالق الفعلي للنص".
النقطة الحاسمة في الرواية، وهي النقطة التي تبدأ عندها وتدور حولها، هي اللحظة التي ستخبر الزوجة فيها زوجها درويش أن صديق ابنتهما آت ليمضي الليلة معها، وأن هذه الليلة "ستكون ليلتها الأولى"، وعليه هو أبوها أن يبارك ذلك ويقبل به. فتبدأ ترسبات الماضي بالظهور، ويعيش درويش كمّاً هائلاً من الصراع بين ما تربى عليه في بلاده، حيث يعتبر تفريط المرأة بشرفها عاراً لا يمحوه سوى الدم، وبين ثقافة البلد الذي يعيش فيه الآن الذي يقدس حرية الجسد، ويعتبره شأناً شخصياً بالفرد نفسه.
هكذا يصبح اندماجه في هذا المجتمع على المحك، وتبدأ هلوساته وأفكاره بالتدفق، لتكشف عن تمزقات ذاته الخَرِبة.
عبد العزيز بركة ساكن، أديب وروائي سوداني، من مواليد 1963، درس إدارة الأعمال في جامعة أسيوط. عمل مدرساً للغة الإنغليزية، ثم شغل بضعة مناصب، أبرزها: مستشار لحقوق الأطفال لدى اليونيسيف في دارفور. أغضبت كتبه الرقابة في السودان، إذ صادرت مجموعته القصصية "امرأة من كمبو كديس"، ومنعت عرض كتبه في معرض الخرطوم الدولي للكتاب. يقيم بركة ساكن حالياً في النمسا، وهو متفرغ للكتابة. من رواياته: "الطواحين"، "رماد الماء"، "زوج امرأة الرصاص وابنته الجميلة"، "العاشق البدوي"، "مسيح دارفور"، "الجنقو مسامير الأرض"، "مخيلة الخندريس".
حصلت روايته "الجنقو مسامير الأرض" على جائزة الطيب صالح للرواية عام 2009، كما فاز بجائزة "بي بي سي" للقصة القصيرة عام 1993، وترجمت رواياته إلى عدد من اللغات منها: الإنغليزية والفرنسية والألمانية. أدرجت روايته "مخيلة الخندريس" بترجمتها الألمانية، في المنهاج الدراسي للمعهد العالي الفني في النمسا.
الناشر: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة/ القاهرة
عدد الصفحات: 128
الطبعة الأولى: 2015
يمكن شراء الرواية على موقع نيل وفرات
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...