يبني حجي جابر روايته الثالثة "لعبة المغزل" على مراوغة جذرية تنسف في النهاية كل الحكاية المروية وتفتتها إلى "كرات صوف مبعثرة"، ليعيد غزلها بطريقة أخرى، خالقاً حكاية جديدة منها. لكن ما هي الحكاية الحقيقية؟ هذا ما لا ينشغل به الكاتب، فالحقيقة متغيّرة، يكتبها المنتصر على هواه، ووفقاً لمصالحه، ومصلحة حجي جابر هنا أن يلاعب القارئ ويمنحه بعضاً من المتعة.
إذاً، ما الذي تريد هذه الرواية قوله ما دامت تهدم في النهاية كل ما بنته، ثم تبني قولاً جديداً لا يستطيع المتلقي اعتباره بناءً غير قابل هو الآخر للهدم؟
هذا بالتحديد ما تريد قوله: إن الحكاية، أي حكاية، حتى هذه الحكاية، لها وجوهٌ عديدة. لا شيء حقيقي وصحيح بالمطلق، وكل شيء قابل لإعادة التدوير والتأويل، في لعبةٍ تشبه حركة المغزل التي يستعيرها الكاتب ليبني وفقها شكل روايته. "بدأت الفتاة تراقب جدتها وهي تغزل بالمغزل العاجي، وكأنها ترى المشهد لأول مرة، حركة اليدين السريعة في اتجاهات متقابلة، وكأن كل عصا تنقض غزل الأخرى، بينما هما يتكاملان في المضي بالصوف إلى لحظة ذروته. هذه المرة كانت تبحث عن الأمر الذي يجعل هذا الفعل المتكرر خالياً من الرتابة، الأصابع الرهيفة اعتادت تبادل الحركات الدائرية بتناغم رهيب من دون أن يبعث على الملل. كان ثمة سر في فعل الشيء نفسه كل مرة، مع نتيجة مختلفة دائماً".
في أحد أوجه الحكاية، أن بطلة الرواية، التي لا نعرف اسمها، سمراء جميلة، ممشوقة القوام، تعيش مع جدتها في مدينة أسمرا بعد أن توفي والداها وهي لم تزل في الثالثة من عمرها. تعمل في "دائرة الأرشفة"، وهي دائرة تهتم بأرشفة وثائق الدولة وحفظها إلكترونياً. هذه الوثائق كتبها مناضلون وجنود شاركوا في حرب الاستقلال، وكانوا يسجلون يومياتهم ويوميات الحرب الدائرة.
هكذا تجد الفتاة نفسها أمام أكوام من الورق الأصفر المهترئ الحافل بعبارات جافة، مملة رتيبة، لا روح فيها. ولا تلبث أن تجد طريقها إلى الاستمتاع بالعمل، تبدأ بتغيير ما ورد في الوثائق، تكمل الحكايات الناقصة، وتخترع حكايات جديدة للأشخاص، وتعدّل على هواها، "كانت تشعر بالإثارة، فها هي تصنع حكايتها الخاصة، ها هي تبث الروح في وثائقها البنية".
مقالات أخرى
مراجعة لرواية "مصائر - كونشرتو الهولوكوست والنكبة"
تجارب ثقافية سورية بارزة في اسطنبول
وفي أثناء عملها هذا، يغزل الكاتب حكايات فرعية في ثنايا الحكاية الأصلية، عن قائدٍ عسكري شجاع، ومطرب يتبرع بأجور حفلاته لدعم ثورة بلاده، وممرض ستينيّ يرافق المقاتلين ويعالج الجرحى، وفتاة لعوب تخون وطنها. هذه الحكايات الفرعية إضافة إلى أنها تمنح النص مزيداً من الإمتاع والإثارة، فإنها أيضاً تضيء على قصص حصلت في زمان حرب الاستقلال، وبتعديلات الفتاة عليها وتحويرها وإعادة كتابتها، يُدخلنا الروائي في صلب عملية "الحكي" وصناعة الحكاية، وكيف أن لكل حكاية وجوهاً متعددة، "الحكايات كائنات مسننة يجدر أخذها على محمل الجد، تغرس أثرها عميقاً، فننتبه بعد فوات الأوان، وقد أدمت كل ما مرت به. نخلق الحكايات، لكنها سرعان ما تنال استقلالها، لتهاجمنا بضراوة غير مسبوقة".
تشير الرواية إلى التزييف الحاصل في كتابة التاريخ، وكيف أن المنتصر يكتبه على هواه، فيزوّر الحقيقة بما يلائم مصالحه، خالقاً الأمجاد من حوله، مشوّهاً صور الآخرين، ومحوّلاً هزائمه إلى انتصارات. إذ ترقّى الفتاة في عملها، وتُنقل إلى القسم الذي يخص وثائق "الرئيس"، الوثائق التي يشرف هو شخصياً على تعديلها وإعادة كتابتها بخطه الجميل، حاذفاً كل ما يسيء إليه، من كتابات المقاتلين الذين شاركوه الحرب. وبعد هذا التعديل تقوم الدائرة بحرق الوثائق الأصلية غير المعدلة لطمس الحقيقة إلى الأبد، وخلق صورة ملمعة للبطل الأوحد، المنقذ للبلاد من الهلاك.
أمام هذه الاكتشافات، تتهدم الصورة التي رسمتها الفتاة في مخيّلتها للسيد الرئيس، وتدرك حجم بشاعته، وتبدأ بالمقارنة بينه وبين الطبيب الذي تزوره بين فترة وأخرى، الطبيب الدميم الذي أحبها وبادلها بعض التسجيلات بصوته اعترف فيها بحبه، رغم بشاعة شكله. تفضح الوثائق قبح الرئيس، وجبنه، بينما تكشف التسجيلات شجاعة الطبيب، ويدور المغزل ليعيد نسج مفاهيم القبح والجمال. "شرع السيد الرئيس مباشرة في إزالة قبحه، في التنصّل منه. لكنه محا القبح بقبح أكبر. فكرت كم كان الطبيب نبيلاً حين اختار قبح ملامحه، على أن يطول القبح داخله، أكثر من ذلك بدا الطبيب شجاعاً للغاية وهو يختار الحقيقة بكل مرارتها، عوض التقلب في نعيم الزيف، وهو ما تجنبه السيد الرئيس بكل جبن، كان رجلها جباناً إذن، لم يقوَ للحظة أن يواجه نفسه بأن ينظر في المرآة ويقبل الصورة المنعكسة أمامه".
يقسم الكاتب روايته إلى 10 شرائط، لكل شريط منها وجهان، وفي الفصل الأخير الذي لا يتبع لهذا التقسيم، نكتشف أن ما سبق لم يكن إلا تسجيلات صوتية قامت بها الفتاة، لكن هذا الفصل يكمل لعبة الرواية، فيغيّر الكثير من حقائقها ليعيدنا إلى السؤال: "ما هي الحقيقة؟ من يكتبها؟ وهل ما سبق من تسجيلات هو الحقيقة أم ما ورد في هذا الفصل؟".
لا يجيبنا حجي جابر، بل يتركنا معلقين في فتنة المغزل العاجي، الذي نسج به روايته الثالثة، ليضيفها إلى روايتين سبقتاها، عرّفنا من خلالهما أن هناك أدباً عربياً مكتوباً في تلك البلاد التي نجهلها، ونجهل أدبها، بلاد اسمها إرتريا.
حجي جابر هو روائي إرتري، من مواليد مدينة مصوع 1976. يعمل صحافياً. له ثلاث روايات: "سمراويت" التي فازت بجائزة الشارقة للإبداع الروائي 2012، "مرسى فاطمة"، "لعبة المغزل".
الناشر: المركز الثقافي العربي/ الدار البيضاء - بيروت
عدد الصفحات: 208
الطبعة الأولى: 2015
يمكن شراء الرواية على موقع نيل وفرات وآرابيك بوك شوب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 7 دقائقحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...