بينما تتوسع إيران في حروبها في المنطقة وتجند شبابها بحجج مذهبية في معارك تعزز فيها قدرتها السياسية، تظهر في الداخل بعض الأصوات الناعمة تغني ضد الحرب لكنها تُصادر ثم تُتهم بالعمالة.
"لا أعرف لماذا لا استطيع أن أدرك كيف ينتهي كل شيء بالحرب، جيلٌ جديد ذهب للحرب ولم يعد"، بوضوح شديد انتقد المطرب الإيراني الشاب مهدي يراحي الحرب التي لم تنتهِ في بلاده بعد، مرة داخل الحدود ومرة خارجها، تقول كلمات أغنيته إن كل ذكرياتنا ارتبطت بالحرب والموت حصد الجميع وذهب بالعقل.
ببزة عسكرية، عاقداً على ذراعه شعار النازية معتمراً قبعة روسية منتعلاً حذاءً انكليزياً، صور مهدي يراحي أغنيته السياسية الاجتماعية "قطعة حجر". فإلى أين صوّبَ يراحي حجره هذا؟ وهل قرار منعه عن العمل سيمنعه وزملاءه من رمي أحجار جديدة؟
لا يقف الفنان الملتزم في إيران بعيداً عن مجتمعه بل يتطرق لمشكلاته في كل أعماله، فأغلب الأعمال التي اشتهرت في السنوات الأخيرة كانت تمحورت حول المعاناة اليومية للمواطن العادي في إيران، الكادح في سبيل توفير رزقه بين أكوام اللصوص والفاسدين، أغنيات عن مشقة البحث عن الأوكسجين بين دخان المعامل وتلوث طهران وغبار الأهواز، وعن ابتسامة بين أكوام الممنوعات والحواجز التي فرضتها حكومة دينية تنهب جيوب الشعب.
تناوُلُ الفنانين الإيرانيين هذه المواضيع الاجتماعية أمرٌ بالغُ الحساسية في إيران وكثيراً ما يصطدم بشدة الأصوليين الراغبين بطمر الناس تحت أُحجية القدر والتسليم وانتظار الفرج الإلهي، لكن تطرق الأغنيات لسياسة البلاد وإعلان رفضها يحتاج قدراً كبيراً من الجرأة والجسارة والضمير الحي كذلك، فلا يمكن أن تكتب أو تتكلم بحرية قبل أن تضع قدمك خارج الحدود.
فی عام 2012 بث التلفزيون الإيراني موسيقى أغنية "أحلامنا" الاحتجاجية، عن طريق الخطأ، ما آثار موجة اعتراض واسعة لدى المسؤولين، فالمطربان "إبي" و "شادمهر عقيلي" قدما هذه الأغنية وهما خارج البلاد، وكل ما في الأغنية (أحلام بسيطة لعالم أخضر دون حرب، دون قنابل وصواريخ دون سجون مملوءة بمن ارتكبوا جريمة السؤال)، وعلى الرغم من أن تصوير الأغنية لم يحمل إشارات مباشرة ضد الحكومة الإيرانية، فإن الوقوف ضد الحرب بحد ذاته جريمة تكلف صاحبها تهمة العمالة ولا سيما أن هذه الأغنية سجلت في استديوهات بأمريكا.
لم تقف عدوى الأغنية الاحتجاجية عند فناني لوس أنجلس كما تسميهم الحكومة الإيرانية، بل انتقل إلى داخل البلاد حیث کتب وغنى الشاعر "یغما غلرويي" عدداً من الأغاني التي تطرقت للمسائل اجتماعية ولا سيما حرية المرأة كأغنية "الانعتاق" التي تسببت بجدل واسع عام 2015 انتهی بتوقيف "غلرويي" لدى النيابة العامة دون توضيح السبب ليفرج عنه لاحقاً.
حيك بابا حيك
أقدم المطرب الإيراني مهدي يراحي على إعادة غناء "حيك بابا حيك" وهي أغنية من التراث العربي اشتهر بأدائها العراقي ناظم الغزالي، أطرب مهدي عشاق الموسيقى بلا حدود مطلع عام 2018 بنبشه في الغناء العربي وتقديمه حيك بابا حيك للجمهور الناطق بالفارسية كخطوة هي الأولى من نوعها في إيران.
ما يعرفه الإيرانيون عن العرب لا يسر خاطرهم، فالأموال التي ينفقها النظام الإيراني على حروبه في سوريا والعراق جعلت من شعبه باللاوعي عدواً لهذه البلاد، بالطبع هناك تراكمات مملة من العداوة بين الشعبين الجارين الفارسي والعربي تشكل أسباباً لهذه الكراهية. لكن الحرب الأخيرة في سوريا كانت سبباً مباشراً، لينمو العداء وتتوسع الخشية من الآخر العربي، ومع ذلك كونت أغنية حيك بابا حيك أنموذجاً عن قدرة الثقافة على التقريب بين الشعوب وسلطت هذه الخطوة الضوء على يراحي واهتمامه بقضايا بلاده، فتصوير أغنية حيك جرى في الأهواز ليعرض براميل نفط خالية وغباراً يلف المدينة في إشارات تحمل معاناة المدينة، كما غنى للبيئة المنكوبة وقاد حملة لحماية نهر كارون وقدم حفلات مجانية للفقراء.
وسُجل لمهدي يراحي موقف جريء آخر في حفل غنائي له في الأهواز وهو يرتدي زي عمال معمل فولاذ الأهواز الذين اعتصموا مطالبين برواتبهم المتوقفة وحقوقهم المسلوبة.
يعبر الشريط المصور أمام عينيك لتفهمه بوضوح دون حاجة لمعرفة اللغة الفارسية، الأمر أشبه بشريط ذاكرة إيراني، فهذا طفل يحمل سلاحاً في إشارة لمشاركة الشبان الإيرانيين في حروب المنطقة، وهذه كاميرا تصور الأطفال وتستغلهم في إشارة إلى سوء التغطية الإعلامية التي يقوم بها التلفاز الإيراني، وهذه سيدة تحمل صورة ابنها الشهيد، فيما ينهار المشروع السكني الذي بُني للتو، في نقد واضح لمشروع "مهر" السكني الذي لم يقاوم أخف الهزات الأرضية، ويكمل الشريط المصور نقل مأساة يومية للمواطن الإيراني في مدارس أبنائه وتأمين لقمة العيش وماء الشرب.
نسيان الأحزان ليس ثقافة إيرانية
يقول يراحي في أغنيته "أنا الشهيد الأخير في قبيلة لا تملك الماء والخبز ... فليقل لي أحدكم لمَ لم نستمتع بالحیاة بعد"، السؤال هنا غير مشروع ولا أحد يهتم بالإجابة عنه، بل كل ما يشغل البال الآن هو أي تهمة مناسبة توجه لهذا المطرب، والعمالة هي أسهلها، إذ روجت مواقع الأصوليين لربط هذه الأغنية بسلسلة وثائقيات تنتجها قناة بي بي سي حول الحرب العراقية الإيرانية، واعتبار أن ما جاءت به الأغنية هو تقليل من شأن الحرب ومحاولة لطمرها ووضعها في أرشيف الذكريات، وهو أمر ممنوع، فآثار المعارك في مدن الجنوب الإيراني لا تسمح بترميمها ولا إعادة الخدمات لها كما كانت قبل الحرب لتحتفظ بندوب الحرب.
"لا أعرف لماذا لا استطيع أن أدرك كيف ينتهي كل شيء بالحرب، جيلٌ جديد ذهب للحرب ولم يعد"، بوضوح شديد انتقد المطرب الإيراني الشاب مهدي يراحي الحرب التي لم تنتهِ في بلاده بعد، والنتيجة اتهامه بالعمالة.
أقدم المطرب الإيراني مهدي يراحي على إعادة غناء "حيك بابا حيك" وهي أغنية من التراث العربي اشتهر بأدائها العراقي ناظم الغزالي، أطرب مهدي عشاق الموسيقى بلا حدود مطلع عام 2018 بنبشه في الغناء العربي وتقديمه حيك بابا حيك للجمهور الناطق بالفارسية كخطوة هي الأولى من نوعها في إيران.
الفساد في إيران يقف خلف إصبع الحرب، العنصرية أيضاً تقف خلف إصبع الحرب، فمدن الحدود الإيراني من كردستان إلى الأهواز إلى آبادان إلى بوشهر إلى سيستان وبلوشستان لا تحظى بخدمات مدن الداخل.
ربما ستُنسى أغنية "قطعة حجر" مثل غيرها، وقد تصبح باباً جديداً لانتشار هذا النوع من الموسيقى بين الفنانين في إيران مع استمرار تجاهل مطالب الشعب.
التهمة الثانية هي عروبة مهدي يراحي، الشاب الخوزستاني حمل معاناة مدينته بصوته، فأن تكون عربياً أو ذا أصول عربية فهذا يجعل العنصريين الإيرانيين يرفضون كل ما تقوم به حتى ولو كان لمصلحتهم.
ونسيان الأحزان ليس ثقافة إيرانية، فهم يحفظون تفاصيل الأحزان من قرون تلت ويعيدونها دائماً، فكيف لهم أن ينسوا حربهم مع صدام حسين، لذلك تهمة نسيان الأحزان تضاف إلى قائمة التهم الموجهة ضد يراحي، وهي كفيلة بتشويه الهدف الحقيقي لأغنية "قطعة حجر".
دافع المطرب الشاب عن أغنيته ورفض الاعتذار الذي طالبه به البعض وأعلن بشجاعة استعداده لأي عقوبة محتملة من وزارة الإرشاد والثقافة الإسلامية، موضحاً أن ما قدمه هو دعوة ليتذكر الشعب معاناته، ودعوة المسؤولين للاهتمام بحل أزمات الناس والابتعاد عن الشعارات.
خلف إصبع الحرب
يمكننا أن نتساءل لماذا لم يتناول يراحي القضايا الاجتماعية بعيداً عن السياسة وعن العقائد، ولماذا غنى ضد الحرب؟
الإجابة بسيطة فالفساد في إيران يقف خلف إصبع الحرب، العنصرية أيضاً تقف خلف إصبع الحرب، فمدن الحدود الإيراني من كردستان إلى الأهواز إلى آبادان إلى بوشهر إلى سيستان وبلوشستان لا تحظى بخدمات مدن الداخل، والسبب أنها معرضة للاشتباكات، ولم تسجل منذ سنوات أحداث مهمة في هذه المدن إلا أن عقلية النظام الإيراني التي تتجه نحو حروب خارج الحدود تجعله يعتقد أن هذه المدن ليست إلا ثغوراى لحروب مستقبلية ربما، ومن هنا لا يولي أهمية للخدمات والاستقرار فيها، حتى إن الأصوات المعارضة لسياسة طهران أعادت مراراً قولها إن مدن الحدود أولى بالمساعدة من سوريا، وإعادة الإعمار هنا أولوية لإيران، لكن تفجيراً إرهابياً هنا وخطف عناصر من الأمن هناك يظهر تردداً واضحاً لدى الشارع الإيراني تجاه المدن الحدودية.
لا يمكن تخمين مصير مهدي يراحي، من الممكن أن تُنسى أغنية "قطعة حجر" مثل غيرها، ومن الممكن أن تكون باباً جديداً لانتشار هذا النوع من الموسيقى بين الفنانين في إيران مع استمرار تجاهل مطالب الشعب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع