"يا حلوة اللي شالها غزل الهوى... خايف يطير الشال وتطير الدني" لا يمكن أن نترجم هذه الأغنية للبناني نصري شمس الدين إلى اللغة الفارسية دون أن نُتهم بالانتماء للتيار الأصولي في إيران والعمل على ترويج عقائده. نعم إنه يترجم بالفعل ما یقوله یومیاً المسؤولون عن قضايا "الحجاب والعفاف" في إيران، فالحجاب الإجباري كما يبدو أحد أركان النظام الحالي ووجهه غير القابل للخدش.
لا يُعتبر الحجاب أمراً شخصياً ولا قراراً داخلياً يخص الأسرة، بل إنه دستور البلاد، ورفضه تنتج عنه عقوبات على كلّ مواطنة أو مُقيمة، فالمحكمة تنتظرك والشارع لن يرحّب بك بهذه السهولة.
لم تخرج الثورة الإسلامية بقوانينها من العدم، بل جاءت ترجمةً لانتصار تيارٍ محافظٍ على تيارٍ حداثي داخل صفوف الثورة نفسها، انتصارعقلية الأغلبيّة المحافظة وقوالبها الرجعيّة على عقليّة التجديد ونظرياته الحداثيّة العازمة على تغيير المجتمع. بهذه البساطة فشلت الأخيرة كما يبدو أو كما يحب أنصارها أن يقولوا "خدعوا" لكن لتفاصيل هذه القضية أوجهاً مختلفة.
يتّسم المجتمع الإيراني مثل العديد من الشعوب الشرقية بالمحافظة والتمسّك بخصوصيتّه الثقافيّة، ينعكس ذلك في مختلف تفاصيل حياته، الطعام والشراب واللباس، الاحتفالات والأسماء وغيرها، يبحث في ماضيه الغابر عن أي شيء يعكس هويّته المستقلّة، يخاف من الهويّات الغريبة عنه، لا نخصّ تيّاراً دون آخر، بل جميع التيّارات الإسلامية وغير الإسلامية في إيران، تخاف من ضياع اللغة والهويّة، فالبعض يكره الغرب ويحارب مظاهره بالتمسّك بالقراءة الإسلامية الخاصّة به كإيراني، فيما يخاف التيار الآخر من الإسلام ويحاول الرجوع إلى ما قبل الإسلام وارتداء عباءة الحضارات الغابرة، لكن الجيل الشاب بالرغم من هذا الإرث الثقيل بدأ يدوّن حكايته الخاصّة. فهل ينجح؟
في أزقّة الأحياء الجنوبيّة للعاصمة طهران، ترى أغلب السيدات بالعباءة السوداء وأخريات دون عباءة، لكن بلباسٍ ساترٍ طويلٍ وحجابٍ محافظ، أما في شمال المدينة فترى الشال البسيط والشعر المسدول من الأمام والخلف، المعطف قصير وغالباً دون أزرار، فيما تعج المولات التجاريّة شمال العاصمة بالماركات الأجنبيّة الباهظة، ومعظم هذه الأزياء "المتحرّرة" لا يمكن أن تراها على أجساد المارّة في الشارع، منفذك الوحيد لرؤيتها هو تطبيق الانستغرام، نافذة البيت الإيراني.
كيف حدثت كلّ هذه التناقضات داخل المدينة الواحدة؟ كيف لك ألا ترى من شابة محافظة سوى أنفها المتقدّم تحت عباءتها، فيما تصرخ واحدة على مقربة منها هناك بشالها الأبيض: لا نريد هذا الحجاب أيها اللصوص؟
رحلة تحدّي الحجاب الإجباري من الأسود إلى الأبيض
لم تحصد القوانين التي فرضها الشاه الإيراني رضا بهلوي عنوةً على المجتمع الإيراني بغية تغيير المجتمع نتائجَ إيجابية، فمنع ارتداء الحجاب عام 1936 جعل الكثيرين يقفون مع رجال الدين ضدّ هذا المستبدّ، فكما يقول المثل الإيراني "السيّئ أفضل من الأسوأ"، فوقوف التيارات اليساريّة والعلمانية في إيران مع الثورة الإسلامية بقيادة مرشدها آية الله الخميني للتحرّر من المستبدّ، استند إلى بيانات الأخير ووعوده، حيث أكّد الخميني من منفاه في "نوفل لوشاتو" في فرنسا على عدّة مبادئ، منها حريّة التعبير والاعتقاد وعدم السماح لرجال الدين بالتدخّل في الحكومة، لكن ما حدث بعد انتصار الثورة لم يلبِ تطلّعات الكثيرين.
فبعد شهر واحد من انتصار الثورة، أصدر الإمام الخميني توجيهاً بضرورة الالتزام بالحجاب داخل المباني الحكومية، لم يكن وقع هذا القرار بالسهل أبداً ولم تسكت الثوريّات عنه، فبعد يومين وبمناسبة يوم المرأة العالمي 8 آذار خرجت مظاهرات نسائية تجوب الشوارع معلنةً رفضها هذا القرار، وانشغلت الصحف بالتصريحات النسويّة في الشارع وتصريحات بعض المسؤولين الذين أصرّوا على شعارهم المبدئي "لا حجاب إجباري". من أبرز ما قيل في ذلك اليوم كان للأديبة الإيرانية المشهورة "سيمين دانشور": "حينما نتمكّن من أن نعيد إعمار هذا الوطن المدمّر، أن ننعش اقتصاده، نرتقي بالزراعة، نقيم حكومة عدل وحرية، عندما يشبع ويكتسي جميع أبناء الوطن ويحصل كلّ فرد على مأوى له ونوفّر التعليم والتربية والصحة للجميع، يمكن عندها الذهاب إلى المسائل الفرعيّة والفقهيّة، والتفكير بطمأنينة من داخل منزلٍ أبوابه محكمة حول وضع النساء".
بالتزامن مع هذه المظاهرة أعلن التلفزيون الإيراني عدم الاحتفال بيوم المرأة وفق التقويم الغربي، وأصبح الاحتفال بيوم المرأة في ذكرى ولادة السيدة فاطمة الزهراء. كل شي إسلامي، هكذا بدأت العجلة تدور وتتحرّك على خلاف ما أراد الكثيرون، لم يتوقف الأمر على الوزارات فقط، بل تتالت خلال السنة والنصف الأولى من عمر الثورة القرارات والتعميمات على مستوى المديريات في البلاد: "ممنوع الدخول دون حجاب"، "لا رواتب لغير المحجّبات”، حتى بعض الأسواق في تبريز وشيراز أعلنت رفضها البيع لغير المحجّبات، وتصريحات المسؤولين أصبحت أكثر جرأة.
لم تستسلم السيدات في إيران بل قاومن بطرقهن المختلفة، فخرجت يوم 6 حزيران 1980 تظاهرةٌ نسائية أمام مجلس الوزراء رفضاً للحجاب، ارتدت فيها النسوة اللون الأسود تعبيراً عن غضبهن، وبدأن بالذهاب إلى الدوائر باللون الأسود احتجاجاً على القوانين الجديدة. في خطبة يوم الجمعة من نفس الأسبوع، اتهمهنّ الإمام الخامنئي بالكذب ومعاداة الثورة، وقال يومها خطيب جمعة طهران، متسائلاً : "لماذا لم ترتدين الأسود عندما كانت الناس تموت في أيام الشاه"؟
زادت القوانين ضغطاً على الشعب ففُرض الحجاب في المدارس في السنة ذاتها، كما بدأت القوانين بتضييق الخناق والتدخّل بالتفاصيل، وكانت وزارة الاقتصاد سبّاقة لكبت الحريات أكثر فأكثر، لتصل حد تحديد أربعة ألوان فقط للباس النساء: كحلي وأزرق وبنّي وعسلي، ولا يزال القرار قائماً إلى يومنا هذا في الدوائر الحكوميّة.
حاصروا النساء من كلّ جانب ولم يتبقَ سوى الشارع، على وقع نيران الحرب مع العراق، صدر قرار الحجاب الإجباري في أول تشرين الثاني من عام 1983، حيث نصّت المادة 102 على تنفيذ عقوبة بـ74 جلدة لكلّ امرأة تخرج إلى الشارع دون حجاب شرعي.
شغلت الحرب النساء والرجال، فهموم المواطنين أكبر من هموم الحكومة التي استمرّت في تشديد قراراتها يوماً بعد يوم، إلى حين وصول محمد خاتمي إلى الحكم عام 1997 حينها مثلت حكومته في إيران "فسحة حرية" للنساء.
لم تكن حكومة خاتمي السبب الوحيد لتتذكّر النساء طعم الحرية، بل إنها التكنولوجيا الحديثة وثورة الاتصالات العصرية، ثم عاد النضال مرة ثانية مع عودة القمع وتشديد الشرطة الدينية في عهد محمود أحمدي نجاد، ودخول ملف الحريّات ضمن اللعبة السياسية الذي تمكّن الرئيس الحالي حسن روحاني من استغلاله لصالحه بين الشباب، فظهرت عدّة حركات لرفض الحجاب كان أهمها "الحريات المختلسة" التي تصور فيها السيدات أنفسهن دون حجاب في الأماكن العامة، و"أيام الأربعاء الأبيض" حيث ترتدي السيدات حجاباً أبيض تعبيراً عن رفض الحجاب.
الإسلام وأزمة العقائد المفروضة
بالطبع لا يمكن الحديث عن الحجاب بعيداً عن العقائد الإسلامية التي فرضت الحجاب، مع اختلاف التأويلات والفتاوى حوله، فهي المنطلق الرئيسي لمن ينادي به داخل إيران وخارجها، فإحدى الظواهر التي تجمع إيران بالعالم الإسلامي هي رجال الدين، الذين تركوا كل هموم الإنسانيّة والمجتمعات البائسة ليصبّوا اهتمامهم على جسد المرأة ووجوب تغطيته وحفظ مفاتنها وفرجها وما إلى ذلك من القضايا الثانوية التي أصبحت أولويّة محوريّة في حياتهم اليوميّة.
وبالفعل نجح هؤلاء في تجميد عقول الكثير من النساء في إيران وغيرها ضمن إطار الحجاب أومحاربته، فأصبحت النساء المناصرات للحجاب يجتهدن لترويجه فيما تقف الأخريات لنقل النضال ضد الحجاب الإجباري من نقطة إلى أخرى.
لا أحد يعلم كم يستهلك هذا الأمر من وقت المجتمع الإيراني لكن مشهداً واحداً في الطائرة التركية وهي تقلع نحو إسطنبول يدل على عمق التحول، فالأمر لا يقف على خلع الحجاب في الطائرة بل يصل إلى نزع البنطال وارتداء التبان القصير جداً (هوت شورت) ورمي ذلك المعطف "الممل"، الأمر ليس محرجاً للإيرانيات بل طبيعي جداً لأن لا مكان آخر يجيز لهن القيام بهذا العمل قبل مغادرة أجواء البلاد.
تقول مهسا: "فقط في إيران والسعودية الحجاب إجباري، مما يجعله سيء السمعة، أنا أسافر إلى تركيا وارتدي الحجاب دائماً لكني أخلع العباءة السوداء، أشعر بأن الجميع ينظر إليّ وأنا أرتديها، أفضّل الحجاب التركي أو العربي فهم يرتدون ألواناً مميزة ويعتنون بالحجاب، ولا أحد يفرض عليهن ذلك، تماماً عكس ما يحدث في إيران".
يقول إحسان (عربي مقيم في تركيا ) يمكن تمييز الإيرانيات بسهولة، لهن مكياج خاص ولباس خاص، حتى على الشاطئ، أجسادهن تشتاق للشمس أكثر.
تعيد كلمات إحسان لذاكرتي مشهد مسبح "انقلاب" في طهران المفتوح من الأعلى، حيث تستطيع السيدات الحصول على حمّام شمسي وسط الأشجار العالية التي تسيّج المكان، لم يكن المشهد مألوفاً بالنسبة لي بعد، فالتعرّي يخترق عيون الناظر، ملابس السباحة تُخلع هنا لعدم وجود الرجال، هل الفصل بين الجنسين هو السبب في رفع كل الحواجز؟
مشهد مسبح "انقلاب" في طهران المفتوح من الأعلى، حيث تستطيع السيدات الحصول على حمّام شمسي وسط الأشجار العالية التي تسيّج المكان، لم يكن المشهد مألوفاً بالنسبة لي بعد، فالتعرّي يخترق عيون الناظر، ملابس السباحة تُخلع هنا لعدم وجود الرجال، هل الفصل بين الجنسين هو السبب في رفع كل الحواجز؟
يختلف سقف أحلام الفتيات في إيران، بين طالبة تقف في ساحة انقلاب تلوّح بشالها رفضاً للحجاب الإجباري ومحاربة للقوانين الجائرة، وبين فتاة تريد أن ترتدي ملابسها التي ابتاعتها لكازينوهات أنطاليا في تركيا، وبين أخرى ترغب بأن يُسمح بالعباءة المزركشة في الدوائر الحكوميّة.
ثورة على النظام أم على المجتمع؟
في مقهى للنرجيلة في ساحة "ولي عصر" تدخل أمامي فتاة بعباءة سوداء تجلس مع شاب بالقرب من طاولتي، لم أنفخ دخاني بعد حتى ظهر شعرها الأصفر ولباسها الملوّن وشبكت يدها بيد صديقها ، أندهشُ من السرعة لا يمكن لأي شخص فعل ذلك بسهولة، الأمر يحتاج إلى سنوات من التدريب والتأقلم والإرادة. لا يمكن للكثيرات التمتّع بقسط من الحرية المتداولة بين أقرانهن في إيران، فالقضيّة ليس عامّة بل خاصّة، على مستوى العائلات المحافظة، والحرب هنا تختلف بمنطلقاتها وأدواتها فأنتِ وحيدة أمام الجميع، والحلّ الأفضل هو الاستسلام كما تقول زهراء: "حب أن أضع المكياج وأرتدي قميص جينز دون عباءة لكن هذا الأمر ممنوع، آتي إلى هنا بعيداً عن عائلتي وأخلع العباءة عندما أدخل المطعم، أختي الكبيرة تعلم ذلك لكنها تلومني فهي تقول: لا أحد سيتزوجك دون عباءة".
يختلف سقف أحلام الفتيات في إيران، بين طالبة تقف في ساحة انقلاب تلوّح بشالها رفضاً للحجاب الإجباري ومحاربة للقوانين الجائرة، وبين فتاة تريد أن ترتدي ملابسها التي ابتاعتها لكازينوهات أنطاليا في تركيا، وبين أخرى ترغب بأن يُسمح بالعباءة المزركشة في الدوائر الحكوميّة.
وتبقى كل هذه الأحلام الصغيرة في قاروراتها تسبح في بحر النظام الإيراني، فمن يقرأها قبل الطوفان؟.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...