"يا بوليس اقلع طاقيتك/ رطل السكر بقى ماهيتك". هتاف يتردد اليوم بطول وعرض السودان. فحيثما تولى وجهك من عطبرة إلى الخرطوم مروراً بالقضارف وأم درمان، سوف تسمع الحشود تهتف به بأصواتها الغاضبة التي تملأ الشوارع.
السودانيون سئموا الفقر، وقرروا التحرك قبل أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة جوعاً أو مرضاً. ما يحصل الآن ليس بسيطاً ويشبه بداية الكثير من ثورات الربيع العربي، لكن المفارقة المثيرة للتأمل هي أن ضخامة الأحداث وعدد الضحايا الذي يرتفع يوماً بعد يوم، لم يجعل التظاهرات تفرض نفسها كخبر أول على وسائل الإعلام العربية.
تكاد الفضائيات العربية تتجاهل تماماً الوضع في السودان. فطيلة الأيام الماضية، لم تغطِّ ما يحدث كما يجب. بعضها تجاهل الوضع تماماً، فيما مرّ عليه البعض الآخر مرور الكرام، أو على حد تعبير السودانيين "برو عتب".
ربما يعود السبب إلى سياسات الرئيس السوداني عمر حسن البشير، فالرجل الذي فشل في ضبط إيقاع الأحداث داخل بلاده، يبدو أنه نجح في تقديم "خدمات" جليلة للدول العربية الفاعلة، والآن يقف الجميع خلفه، متجاهلين مآسي الشعب السوداني تماماً.
ما يحصل ليس بسيطاً
منذ تولي العقيد عمر البشير مقاليد الحكم عام 1989، بعد انقلاب عسكري أطاح بحكومة حزب الأمة بزعامة الصادق المهدي، والأمور في السودان تسير من سيئ إلى أسوأ. بعض الأزمات ورثها البشير عمَّن سبقوه، وبعضها الآخر صنعها هو بنفسه. لكن بعيداً عن الأسباب، فالحقائق المجردة تشير إلى أنه خلال حكمه انفصل عن السودان جنوبه، وتورّط النظام في مذابح عرقية في إقليم دارفور الذي يوشك هو الآخر على الانفصال، وفي عهده أيضاً تردّت الأوضاع الاقتصادية إلى درجة غير مسبوقة. يمكن القول إن فترة حكم البشير التي تجاوزت الربع قرن لم تكن أعواماً سعيده على عموم السودانيين. أزمات متتاليه، ومصاعب عيش تزداد يوماً بعد يوم، ما نجم عنه أكثر من هبّة شعبية محدودة، سرعان ما تم تداركها والسيطرة عليها. لكن يبدو أن الانتفاضة الجارية اليوم في المدن السودانية تسير نحو منعطف أكثر صلابة وأوسع انتشاراً. ففي مطلع أكتوبر الماضي، اتخذت الحكومة قراراً بتحرير سعر صرف العملة بشكل كامل، ما أسفر عن انهيار تام للجنيه السوداني، ثم جاء البشير ليصرح بعدها بأنه لا مبرر لدعم الوقود، مشيراً إلى أن لا إصلاحاً اقتصادياً حقيقياً بدون رفع الدعم. وتزامن ذلك مع أزمات خانقة في الوقود والخبز فضلاً عن أزمة سيولة نقدية مرعبه دفعت وزير العدل السوداني محمد أحمد سالم في سابقة غير مألوفة إلى أن يشكو للبرلمان من ضيق ذات اليد وانعدام الموارد في وزارته. المدهش أن رئيس الوزراء معتز موسى كان يصرح في نفس الشهر بأن "الاقتصاد السوداني يُعتبر من أقوى وأفضل الاقتصاديات في المنطقة". صار من المعتاد أن يذهب أحدهم إلى المصرف لسحب أمواله فيتفاجأ بالرد: "آسفين، لا يوجد كاش". محطات الوقود لا يوجد فيها بنزين، والأفران لا تعمل بسبب أزمة القمح. باختصار، الحياة أصبحت مستحيلة، وصار انفجار الناس أمراً طبيعياً جداً. بدأت التظاهرات الغاضبة في مدينة عطبرة، وهي مدينة الحديد والصلب اليسارية النزعة وحيث الوجود النقابي القوي، ومنها انتقلت إلى مدن أخرى، حتى وصلت إلى العاصمة الخرطوم. وسرعان ما تحوّلت الهتافات من شعارات ضد الفقر وضد الجوع إلى "الشعب يريد إسقاط النظام"، وهو ما ضغط على أعصاب النظام أكثر فبدأت وتيرة القمع تزيد حتى بلغ عدد القتلى من صفوف المتظاهرين نحو 25 قتيلاً.كيف يغطّي الإعلام العربي الحدث؟
قناة الجزيرة التي دأبت على رصد وتغطية ثورات الربيع العربي، تحت ذريعة أنها تعكس نبض الشعوب، تجاهلت تظاهرات السودان في أول ثلاثة أيام. وفي اليوم الرابع حلّ حراك السودانيين خبراً رابعاً في نشرات أخبارها، ومرّ مرور الكرام ولم يفت القناة أن تستضيف أحد مساعدي البشير ليقول إن الاحتجاجات كانت منسّقة ومنظمة وإن اثنين ممَّن قُتلوا في التظاهرات في مدينة القضارف هما من القوات المسلحة. وفي اليوم الخامس للانتفاضة، انتشرت أخبار لم يتم نفيها أو تأكيدها، عن تقديم قطر مليار دولار مساعدة للنظام السوداني لتجاوز الأزمة. هكذا، دعمت الدوحة الرجل الذي قدّم لها الكثير. فبفضل البشير، نجحت في وضع قدمها في البحر الأحمر بعد أن وقعت مع السودان اتفاقاً استراتيجياً لإنشاء أكبر ميناء للحاويات في البحر الأحمر، وهو المطلب الذي سعت الإمارات إليه، لكن البشير انحاز إلى قطر. كما أن الرجل لم يقف ضد الدوحة في أزمة الحصار الخليجي، وبقي تقريباً على الحياد. ويمكن القول إنه قطر الآن ترد له الجميل، بتجاهل قناتها المؤثرة للهبة الشعبية. لم يختلف موقف قناتي العربية وسكاي نيوز كثيراً عن موقف الجزيرة. فالسعوديه والإمارت لديهما مصالح مباشرة مع البشير الذي رغم أنه حمل العصا من منتصفها في الأزمة الخليجية الأخيرة، إلا أنه ألقى بثقله وثقل جنوده بالكامل في حرب اليمن، وأرسل الجيش السوداني إلى أتون المعركة ضد الحوثيين، ساداً العجز الذي نجم عن قرار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالامتناع عن المشاركة في الحرب، وبذلك أصبح الرقم الأهم في معادلة اليمن بالنسبة إلى الرياض وأبوظبي. لم يكتفِ البشير بذلك، بل قدّم للسعوديه خدمة جليلة حين قرر طوعاً إنهاء شهر العسل الطويل مع إيران وحزب الله، فأغلق قواعد إيرانية وأوقف بث قناة المنار التابعة للحزب المذكور. بل تفاجأ الجميع بوثيقة ويكيليكس يقول فيها مسؤول سوداني لدبلوماسيين في السفارة الأمريكية في الخرطوم أن بلاده تعتبر حزب الله منظمة إرهابية. وبعد إغلاق الخرطوم جميع مراكز الإيرانيين وحزب الله في بلاده، انتشرت أقاويل عن أنه سلّم إلى واشنطن قوائم بأسماء وأماكن تمركز عناصر حزب الله، وهي الخطوة التي ساهمت في تخفيف العقوبات المفروضة عليه، وفي التقارب السعودي-السوداني. من هنا لا عجب في أن يكون موقف "العربية" و"سكاي نيوز" دعم البشير وتجاهل تحركات خصومه. تركيا أيضاً لها مصالح واسعة مع البشير، ولذلك قررت التغاضي عمّا يحدث، وهو ما يمكن ملاحظته من جولة سريعة على الأخبار العربية لوكالة الأناضول التركية.تكاد الفضائيات العربية تتجاهل تماماً انتفاضة السودانيين. ربما يعود السبب إلى سياسات الرئيس السوداني الذي فشل في ضبط إيقاع الأحداث داخل بلاده، لكن يبدو أنه نجح في تقديم "خدمات" جليلة للدول العربية الفاعلة
البشير، الرئيس السوداني الذي تملأ فيديوهات رقصه فضاء اليوتيوب، نجح في الرقص للجميع. والسؤال الآن: هل تنجح انتفاضة السودانيين في الإطاحة به؟ أم أن صوت دعم المصفقين العرب لرقصه سيكون أعلى من هتافات الغاضبين؟فقد سبق أن وافق البشير على منح تركيا إدارة جزيرة سواكن الواقعة في البحر الأحمر، لفترة زمنية لم يحددها. وسواكن هي الميناء الأقدم في السودان وكانت الدولة العثمانية تاريخياً تستخدمها كمركز لبحريتها، وكانت مقراً للحاكم العثماني، ولسنوات عدة سعى أردوغان إلى وضع قدمه في البحر الأحمر، وهو الحلم الذي حققه له البشير أخيراً. فلا غرابه من الموقف التركي حيال الانتفاضة الشعبية إذن. البشير قدّم لأنقرة ما لم يكن ليتحقق لولا وجوده. حال الإعلام المصري يشبه حال إعلام الفضائيات العربية. فالنظام المصري، ورغم العلاقات الملتبسة مع الخرطوم والتي تشهد شداً وجذباً، إلا أن السيسي له موقف مبدئي من الثورات عموماً، فهو يرى أنها علاج خاطئ للمشكلات على حد تعبيره. ويخشى السيسي دوماً من انتقال عدوى التظاهرات إلى مصر التي تعاني من نفس مشكلات السودان، ولو بدرجة أقل. الفقر وغياب العدالة الاجتماعية يجعل الدولتين الجارتين متشابهتين. لكا هذا، قررت وسائل الإعلام المصرية تجاهل الانتفاضة السودانية، والتعامل معها على أنها مجرد مظاهرات محدودة، مع إبراز جلي لموقف الحكومة السودانية. يمكن القول إن البشير، الزعيم السوداني الذي تملأ فيديوهات رقصه فضاء اليوتيوب، نجح في الرقص للجميع. والسؤال الآن: هل تنجح انتفاضة السودانيين في الإطاحة بالزعيم الراقص؟ أم أن صوت دعم المصفقين العرب لرقصه سيكون أعلى من هتافات الغاضبين؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه