في عصرنا الراهن أصبح مفهوم الراحة مترادفاً لفكرة الجلوس، وبات الكرسي جزءاً أساسياً من روتيننا اليومي لدرجة أننا أصبحنا غير قادرين على الاستغناء عنه أينما كنّا.
ففي ميدان العمل، نمضي معظم وقتنا قابعين على الكرسي وراء المكتب، وأثناء تنقلاتنا نجلس على المقاعد في السيارة أو في الباص أو في الطائرة وغيرها من وسائل المواصلات الحديثة، ولعلّ أول ما نقوم به عند عودتنا إلى المنزل بعد يوم عملٍ شاق هو الاسترخاء على الكرسي الخاص بنا لمشاهدة حلقة من مسلسلٍ ما أثناء التهام رقائق البطاطاس.
بتنا نقضي أيامنا ونحن في وضعية الجلوس، وهذا "الهوس" بالاستلقاء على الكراسي جعلنا أكثر انفصالاً عن أجسامنا وأطاح بـ"فن القرفصة" الذي سيطر لفترةٍ طويلةٍ على عادات بعض الشعوب القديمة، مما دفع العلماء في نصف القرن الماضي إلى تغيير طريقة دراستهم لأنماط الحركة.
الكراسي تغزو العالم
بالعودة إلى الكتاب المقدس وإلى الأبيات الثلاثين ألفاً التي نظمها الشاعر الإغريقي الأسطوري هوميروس، نلاحظ أنه لم يتم ذكر الكرسي تماماً كما تم تغييبه في مسرحية "هاملت" لشيكسبير، ولكن في منتصف القرن التاسع عشر، اختلفت القصة تماماً، إذ ذكر الكاتب الشهير "شارلز ديكنز" على نحو مفاجىء الكرسي حوالي 187 مرة في روايته Bleak House، فما الذي تغيّر بالضبط؟ أوضح الكاتب "فيبار كريغان ريد" في مقالٍ على موقع The Conversation أنه في الوقت الذي أصبح فيه الجلوس بمثابة "تدخينٍ من نوعٍ جديد"، بات الجميع يدرك حقيقة أن قضاء الكثير من الوقت على الكراسي هو أمرٌ سيىء ليس فقط من الناحية الصحية، إنما لكون الكراسي شكلت عادة سيئة يصعب التخلص منها. فعندما عمل الكاتب على دراسة كيفية إسهام العالم الذي صنعناه في إحداث تغييراتٍ في أجسادنا، أصيب بالدهشة عندما اكتشف كيف كانت الكراسي نادرة الوجود قديماً، وكيف أصبحت اليوم منتشرة في كل مكان: في المكاتب، القطارات، المقاهي، المطاعم، الحانات، السيارات، قاعات الحفلات الموسيقية، دور السينما، عيادات الأطباء، المستشفيات، صالات المسارح والمدارس، وقاعات المحاضرات، وفي كل ركنٍ من أركان بيوتنا.يوجد أكثر من 60 مليار كرسي على هذا الكوكب. حوالي 10 كراسي لكل شخصوأشار "ريد" إلى أنه في حال طُلب منه تقدير عدد الكراسي في العالم، فإنه لا يخمن ألا يكون العدد أقل من 8 إلى 10 كراسي لكل شخص، أي يرجح وجود أكثر من 60 مليار كرسي على هذا الكوكب، كاشفاً أنه لا يوجد سبب واضح يقف وراء الظهور المفاجئ للعدد الكبير من الكراسي في العالم: "الأمر ناجمٌ عن مجموعة عوامل مثل العادات والموضة السائدة والأوضاع السياسية وعادات العمل وسلوكياته المتغيرة، فضلاً عن الرغبة الشديدة في نيل أكبر قسطٍ ممكنٍ من الراحة، مع العلم أن العامل الأخير ليس بحاجة إلى أي تفسيرٍ أو توضيحٍ، خاصة أنه يدخل في صلب ثقافةٍ يعد فيها الاستمتاع بالراحة من أقوى الدوافع المؤثرة على المستهلك خلال عملية اتخاذه لقراراته الشرائية".
أكثر من مجرد قطعة أثاث
بخلاف ما يعتقد البعض، فإن التقنية المميزة لعصرنا الحديث ليست أجهزة الكمبيوتر بل الكرسي الذي إتضح أنه أكثر من مجرد قطعة من الأثاث، فالكراسي على أشكالها وأنواعها تؤثر بشكلٍ مباشر وغير مباشر على أجسادنا. كشف "فيبار كريغان ريد" أنه بينما بدأت الكراسي في الظهور شيئاً فشيئاً في"الحقبة الحديثة المبكرة" فإنها أصبحت أكثر انتشاراً وشعبيةً خلال الثورة الصناعية. واللافت أنه قبل القرن الثامن عشر، كان من السهل نسبياً اقتناء الكراسي، إلا أن استخدامها كان قليلاً، خاصة أنه لم يكن من السهل على المرء الجلوس لفتراتٍ طويلةٍ على كرسي خشبي صلب، أما الكراسي المنجدة فقد كانت مكلفة، غير أن "ثقافة الجلوس باسترخاء"، التي انطلقت من البلاط الملكي الفرنسي في القرن الثامن عشر ساعدت على تعميم استخدام الكرسي.وضعية القرفصة باتت "منسية" بالنسبة إلى الطبقتين الغنية والمتوسطة في جميع أنحاء العالم، خاصة في الدول الغربية، ذلك أن النفور من هذه الوضعية يعود لأسبابٍ ثقافية واجتماعية: يعتبر هذا السلوك بدائياً ويعكس حالة اجتماعية متدنية.
جعل الكرسي الناس يتحولون إلى كائناتٍ جامدةٍ وسلب منهم حيويتهم وليونتهم، وأطاح بوضعية "القرفصة" التي تعتبرها بعض الشعوب "مفتاح الحل" للتواصل مع أجسادنا من خلال الاحتكاك بالأرض.وأوضح الكاتب أنه لقرونٍ مضت كانت الكراسي تجسّد في طيّاتها بعض المفاهيم والدلالات مثل السلطة والثروة والمكانة الاجتماعية، (كان الكرسي بالنسبة إلى الفلاحين بمثابة التاج الذي يوضع على رؤوس الملوك والحكام). أما من الناحية الأكاديمية فيتم استخدام كلمة chair للإشارة إلى الشخص الذي يدير اجتماعاً ما، كما يطلق على رئيس الشركة بالإنجليزية لقب chairman أو chairwoman، وهناك حقيقة معترف بها دولياً مفادها أن الكرسي الأفضل في أي مكتبٍ يكون دوماً للشخص المسؤول والنافذ، ويمكن القول أن الكرسي الذي صنعها الإنسان تتخطى الأبعاد الهندسية وتعكس نمط الحياة الجديد الذي رسم مسار البشرية.
انعدام الليونة
بمعزل عن رمزية الكرسي ودلالاته ومدى إنتشاره، لا بدّ من تسليط الضوء على الدور الكبير الذي لعبته هذه "القطعة المميزة" في العصر الحديث وكيف جعلت الناس يتحولون إلى كائناتٍ جامدةٍ وسلبت منهم حيويتهم وليونتهم، وأطاحت بوضعية "القرفصة" التي تعتبرها بعض الشعوب "مفتاح الحل" للتواصل مع أجسادنا من خلال الاحتكاك بالأرض. وأوضح موقع Quartz أن فشلنا اليوم في "القرفصة" تنجم عنه آثار بيولوجية وفيزيولوجية، إضافة إلى أثر أعمق وأكبر: "في عالم نقضي فيه الكثير من الوقت ونحن غارقون في رؤوسنا، في السحاب، في هواتفنا فإن غياب "القرفصة" يحرمنا من قوة التريض". ففي حين أن هناك عدداً كبيراً من سكان الأرض يصرون على مبدأ الاستغناء على الكراسي ويواصلون الجلوس على الأرض و"القرفصة" بشكلٍ يومي، للراحة أو للصلاة أو لتناول الطعام، أو لاستخدام المراحيض، (حتى أنه في بعض البلدان التي لا تنتشر فيها المستشفيات فإن "القرفصة" تدخل في عملية الولادة)، فإن هذه الوضعية باتت "منسية" بالنسبة إلى الطبقتين الغنية والمتوسطة في جميع أنحاء العالم، خاصة في الدول الغربية، ذلك أن النفور من هذه الوضعية يعود لأسبابٍ ثقافية واجتماعية: يعتبر هذا السلوك بدائياً ويعكس حالة اجتماعية متدنية. via GIPHY إضافة إلى ذلك، فإن انتشار الكراسي مرتبط بمتطلبات هذا العصر، فمن الملاحظ أنه في الآونة الأخيرة ساهمت بعض الأنشطة التي طرأت على العصر الحديث، على غرار ألعاب الكمبيوتر ومشاهدة البث الحي المباشر عبر الأجهزة الإلكترونية المختلفة، ساهمت في تعزيز مبدأ "الجلوس دون حراك"، وكأننا في حالة تأمل، وهكذا أصبح الإنسان العصري بحاجة إلى الكراسي للقيام بمعظم"الأنشطة". وعليه، إذا كانت الحياة الحديثة تقدم لنا "باقة" من السلوكيات التي تعتمد على الجلوس أغلب الوقت، فيمكن اعتبار الكراسي هي "السيقان" التي تعتمد عليها هذه الباقة، لا سيما أن وجودها بات ضرورياً للغاية، ولا يمكن تصور الحياة من دونها، غير أن هذا الواقع الجديد لا يأتي من دون تداعيات سلبية على صحة المرء ونمط حياته. فقد كشفت الأبحاث التي أجرتها جمعية "بريتيش هارت فاوندايشن" التي تعنى بصحة القلب في بريطانيا، أننا نقضي حوالي 9.5 ساعات يومياً جالسين، مما يعني أن الإنسان الحديث يقضي 75 % من وقته من دون أي نشاطٍ، الأمر الذي يرتب مشاكل جسدية ونفسية لا تعد ولا تحصى: السمنة المفرطة، الاكتئاب، مشاكل في القلب. وفي هذا الصدد، يمكن تطبيق المقولة التالية "العضو الذي لا تستخدمه يضمر"، عند الحديث على أنسجتنا التي يمكن أن تتضرر نتيجة التأثير السلبي لغياب الأنشطة الحركية، فالعضلات والعظام تتأثر بشكلٍ سلبي أو إيجابي جراء زيادة العبء عليها أو التوقف عن استخدامها، وبالتالي فإن الجلوس لوقتٍ طويلٍ يؤثر سلباً على ليونة العضلات ويحدث آلاماً على مستوى العمود الفقري والظهر.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...