وسط أربعة حيطان مُغلّفة بجير متآكل، وجو راكد مكتوم عطن، أُطفئ الأنوار، أشعل شمعة، أجلس أمامها، في طقس تأمّلي هندي يُسَمّونه "كاراكاتا"، ويُشاع أنّه قادم من طقوس روحانية ساحرة للفراعنة في العصور البائدة، أو الباقية، أنظر إلى شعاع الشمعة المتراقص، وبينما يهجُم الاسترخاء عليّ، آكلًا روحي وجسدي بسحره، تتلاشى الشمعة في فلاشات صفراء وخضراء تَرتَسِم على شكل أهرامات، وأهرامات مقلوبة، وشمس، وعيون حورس تنبثق من بُعد غريب في عالم مرئي فقد أبعاده الثلاثية لأبعاد لا نهائية، تعجز خلاياي العصبية على ترجمتها وفقًا لأنماط الذاكرة واللغة.
ووسط الصمت، تنسلّ أصوات مُجرّدة من الهواء بين فتحات النافذة الضيقة: قرقعات أواني مطبخ، زعيق شباب وفتيات غاضبون، أصوات أبواق السيارات، تختفي رويدًا رويدًا، ويطنّ في أذني صوت "الباز"، تعمل خلاياي العقلية عليه، تفكّ شفرته وفق إستراتيجيات حب البقاء، تتعرّف عليه وتُخزّنه، وتُصنّفه، لتتعرّف عليه روحي في ذكرى أول مرة سمعته فيها عندما سافرت في أول رحلة روحانية تحت تأثير نباتات هلوسة معدّلة، صوت أزيز غريب قادم من المجهول، إنه ليس صوت احتكاك أجسام كما تعتاد آذاننا، كأنه صوت الصمت، تزامن هذا الأزيز الغريب مع اختفاء عيون حورس، في غبار سحري ملون بألوان متداخلة من درجات الأخضر والأحمر والأصفر.
كلّ الذين ألِفوا "التريبات" أو ممارسات التأمل الطويلة حكايتهم في سماع صوت "الباز"، وطريقهم الخاص في التعرّف على هذا الأزيز، أو صوت الصمت، وتعريفه. يقول "بهاراتارام"، حساب على موقع التواصل المعرفي "ريديت"، أنّه تعلّم شكلًا جوهريًا من أشكال التأمل، وحاول ممارسة هذا الشكل لبضعة أسابيع، وفيما أحرز تقدّمًا فيه، أثارت قضية واحدة قلقه، ما هذا "الأزيز"؟ صوت من؟ من أين يأتي؟
إذا رغبت في العثور على بعد عميق للحياة يجب أن تستمع إلى الـ"صدى"، وليس إيقاع الموسيقى، الإيقاع سطحي وجميل، والـ"صدى" هو الذي يخلق الحياة، كيف يعكس المرء الحياة في نفسه الآن.
"أوم" هي رمز موسيقى الصمت في كينونتك الداخلية، الممتلىء بالبركة، إذا وصل المرء إلى تلك الحالة، متجاوزًا العقل، مُخلّفًا وراءه كل الأفكار، في وضعية "المراقب" من بعيد، فستنبع موسيقى الصمت داخلك.يشرح تجربته أنه استخدم سدّادات الأذن لحجب أصوات مكيفات الهواء والشارع، وأدّى حجب الأصوات الخارجية إلى سكوت مطلق في البداية، وببطء مع مرور الوقت، بدأَت أذنه تلتقط "صوتًا عميقًا لطيفًا"، وجعل ذلك جزءًا من طقسه التأملي، في البداية ظنّه فقط "صوت الصمت"، ذلك الصمت اللطيف الذي تصبح مدركًا لوجوده عندما تواجه الصمت المطلق، ولكن الأزيز بدأ يلازمه طوال اليوم، حتى في أكثر الأماكن ضجيجًا وصخبًا، وبات ذلك يقلقه. ويؤكد "زورو تي في"، حساب آخر، أنّ الكثير ممن يمارسون التأمل يستمعون إلى هذا الصوت، الذي يعلو بمرور الوقت، إنه جزء من التجربة أيًا كان تفسيركم له: صوت الصمت، أم طنين الأذن، أم مجرد رنين غريب. ويضيف محاولًا التعرف أكثر على الصوت: أنا شخصيًا أتخيّل أنّ هذا الصوت قد يكون هو نفسه الذي يسمعه مُدخّنو "دي إم تي"، ولكن بجرعات أكبر، حيث يرتفع الصوت أعلى وأعلى حتى يُمزّق الواقع بشكل حرفي.
"الأزيز صوت الجنون ويؤدي إلى الانتحار"
"احذروا من صوت الصمت، الذي يأتي بعد ممارسات طويلة للتأمل، إنّه بداية الجنون، وكلّ من سمعه انتحر أو حاول الانتحار"، كانت هذه رسالة الفيلسوف الهندي المعادي لكلّ أشكال التأمل، يو جي كريشنا مورتي، ويعتبر أنّ الحالة التي يسعى إليها المتأمّلون، ويسمّونها "السلام"، تخلق حربًا بين الإنسان ونفسه.الصمت، حميمية داخلية منغلقة بين الإنسان ونفسه، مونولوج له ألوان وروائحيقول: "أنت لا تعرف أيّ شيء عن الصمت، الصمت هناك حيث الكائنات العضوية الحية يمكن مقارنتها، وليس تلك الحالة "الغبية المثالية للعقل"، التي تضع نفسك فيها، وعندما يكون هناك صمت تسمع صوتًا يشبه هدير المحيطات، والدم يتدفق في أوردتك، ما يراه المتأمّلون تنويعات كثيرة للصمت، ولكن معظم التجارب العلمية أثبتت أنّ كل هؤلاء الذين يستمعون إلى الصمت يصيبهم الجنون، التأمل يُقيم حربًا مع الطبيعة". ولكن الذين يحبّون التأمل، ويمارسونه لهم رأي آخر، بارتيشكا أبورف، فنانة تشكيلية هندية، تعتبر "صوت الصمت" هذا صوت "أوم"، وهي الكلمة التي تشير إلى الله عند الهنود، وذلك في مقال لها على موقع "أوشو نيوز". تكتب أبورف: أصعب ما يمكن أن يفعله الإنسان أن يكون في حالة كاملة من "اللافكر"، ولكنّها الحالة الوحيدة التي يمكن أن تستمع فيها إلى صوت الصمت "أوم". وتوضّح ذلك: إنّه الصوت الوحيد الذي يظهر عندما تختفي كل أفكارك، ويغمر الهدوء قلبك، "أوم" هي رمز موسيقى الصمت في كينونتك الداخلية، الممتلىء بالبركة، إذا وصل المرء إلى تلك الحالة، متجاوزًا العقل، مُخلّفًا وراءه كل الأفكار، في وضعية "المراقب" من بعيد، فستنبع موسيقى الصمت داخلك. وتقتبس أبورف كلمات أوشو حول "صوت الصمت"، هي "الصوت المبتهج لذبذبات أوم" داخلك هو الحقيقة المطلقة، ولا يظهر إلا عندما يختفي كل شيء من كيانك، وتصبح هادئًا. وينصح أوشو المتأملين والمتربين قائلًا: اصمتوا، هكذا ببساطة، وأنصتوا إليها، عندما تصبح عقولكم هادئة، ستتعرّفون عليها مثل الهمس، وفي اللحظة التي تتمكّنون فيها من سماعها، ستدخلون في أسرار الوجود. مبروك لقد صرت خبيرًا إلى الدرجة التي تستحق فيها أن يكشف لك الكون عن أسراره.
حميمية داخلية بين الإنسان وذاته
الصمت الذي يكتنف حالة التصوف والتأمل أثار تأمّل فلاسفة اللغة، وأثارت سخريتهم محاولة التعبير عن تجربة روحانية يعتبر الصمت فيها "ممارسة" جوهرية، يقول الفيلسوف لودفيج فتجنشتاين "يجب أن نلتزم الصمت حيال الأشياء التي لا نستطيع التحدث بشأنها"، ولكن الفيلسوف الفرنسي جون غرايش له رأي آخر: "الصمت ليس فارغًا من المعنى، من جهة هو يعني أنّه لم يعد هناك ما يمكن قوله، ومن جهة أخرى فقد فتح الباب على اللانهاية".الصمت ليس فارغًا من المعنى، من جهة هو يعني أنّه لم يعد هناك ما يمكن قوله، ومن جهة أخرى فقد فتح الباب على اللانهايةورأى فلاسفة آخرون، مثل جورج غيسدورف، أنّ الكلمات عاجزة عن الدخول بشكل مباشر للحقيقة الباطنية، وكل ما تفعله هو ترجمة الظاهر من الأشياء، فكلّ ما يتعلق بـ"حميمية الذات" من فكر ومشاعر وإيمان لا وجود لها في الخارج، في اللغة، لهذا يجد المتأملون في اللغة شكلًا من أشكال الانحطاط عن الصمت. كلّ ما يتحدث عنه المتصوفون والمتأمّلون هو شكل من أشكال الصمت، حميمية داخلية منغلقة بين الإنسان ونفسه، مونولوج له ألوان وروائح، لذا تعدّدت الصفات والّلغات لكل مستنير ومتصوّف في وصف هذا المونولوج.
"صوت الصمت هو الذي خلقك وابتكر الحياة"
يرى المعلم الهندي سادغورو أنّ لكل شكل فيما نراه صوتًا "مخفيًا في ذاته"، الصوت الظاهر للجسم، يظهر عندما تضرب الجسم، كلّ الناس تسمعه، هذا هو الصوت الظاهر من الجسم، ولكن هناك صوت خفي للجسم، إذا عرف شكله أي شخص فسيتغير كلية، ففي النهاية أنت كشخص لا شيء في هذا الكون الواسع، ولكن إذا عبّر هذا "الصوت المخفي" عن نفسه أمامك يصبح مثل المفتاح لكل شيء، إنه لا يجعلني أنا فقط منفتحًا، ولكنه يجعل كل الكائنات منفتحة، كل الكائنات التي ألمسها به، لأنّ هذا الصمت هو مفتاحي المقدس.إن لم يتعرف الطفل على صمته الداخلي ويدعه ينمو ويزدهر، فكلّ ما يفعله بعد ذلك لا شيء، مُجرّد أشياء على السطح بلا جذور. ويوضح سادغورو فلسفة "الباز" بلغة يفهمها المتأملون والمتربون جيدًا: الأصوات ليست قمامة، عبثًا لا منطق لها، الأصوات "صدى"، إذا كان الـ"صدى" صحيحًا، فسيتمكّن من العبور عبر روحك وجسدك، مغيرًا ما تراه، لذا إذا اشتغلت الموسيقى أريد منك الاستماع إلى الـ"صدى" صوت الموسبقى، وليس الموسيقى، إذا استمتعت إلى الموسيقى فستستمع إلى الموسيقى. إذا رغبت في العثور على بعد عميق للحياة يجب أن تستمع إلى الـ"صدى"، وليس إيقاع الموسيقى، الإيقاع سطحي وجميل، والـ"صدى" هو الذي يخلق الحياة، كيف يعكس المرء الحياة في نفسه الآن، هذا الـ"صدى" الذي يتردّد هو الذي يقرر ما هي طبيعتك، وطبيعة كل شيء في الحياة. وتقتبس الفنانة الهندية أبورف عن خبير في التأمل قوله عن الحالة التي استمع بها إلى الـ"صدى": إنها اللحظة التي انحل فيها جسدي وعقلي، البداية والنهاية والوسط كانت النشوة ذاتها التي لن أنساها أبدًا. تقول شيفا، إلهة هندية، في كتاب هندي قديم مقدّس: استمع إلى موسيقى "أوم" البدائية التي تهتز داخل الجسم، وهذا له معنى عميق، والموسيقى التي بلا صوت تلعب فقط عندما تكون خاليًا، وبلا تفكير، ومتجنبًا الرغبات بشكل كامل، الله يعبر عبر كيانك ويلعب بصوت الصمت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع