على امتداد 2000 متر تقريباً جنوب شرقي مقام بسيط جداً يدعى النبي خالد بن سنان، تقع مقبرة أثرية اقترن اسمها باسم هذا النبي اليمني كما يدعونه أهالي المنطقة، على يمين الجادة الترابية التي تصل إلى المقبرة ظاهرة طبيعية جميلة تدعى "هزار دره" أي ألف وادي حفرتها الرياح بشكل موزون، وعلى الراغب في مشاهدة المقبرة أن يقطع مسافة ساعة تقريباً مشياً، ليصل إليها عبر طريق صخري.
هناك في أعماق الوادي يشير بعض الزوار إلى صخور منحوتة مرمية من الأعلى، يقول أحدهم "من حمل الصخور إلى هنا كان يرغب بسرقتها"، لكن وجودها سليمة بالأسفل ربما أفضل من تلك المحطمة في المقبرة نفسها.
بخجل يحاول المرشد السياحي توضيح الأمر خلال مسيرنا نحو المقبرة، ويحكي للزوار قصة المكان المشبوه الذي تجاهلت حمايته المؤسسات الحكومية لسنوات، المقبرة الأثرية التي تحمل اسم النبي خالد بن سنان المدفون قريب من هنا يعود عمرها إلى آلاف السنين. ما إن وصلنا حتى رأينا المشهد الحقيقي للمقبرة المختلف عن كل وصف، تبدو الصخور المنحوتة في المقبرة كأنها نابتة من الأرض بعضها قصير وبعضها الآخر أطول، بشكل واضح المنحوتات الأسطوانية تشبه العضو الذكري، فيما تشبه تلك الأخرى العضو الأنثوي بعض الشيء، لكن اغلب المنحوتات تشبه صليباً قصيراً او زهرة ذات ثلاث بتلات. لكل منحوتة خصوصية فالبعض أطول قليلاً أو أضيفت له قاعدة أو حلقة في أسفله، كما هناك خطوط غير دقيقة رسمت على المنحوتة تبدو وكأنها نحتت في زمنٍ لاحق.
تتجمع بعض الفتيات بخجل وعلى الوجوه بعض الصدمة، طبعاً الجميع يعلم مسبقاً أن أهم محطة في هذه الرحلة هي المقبرة ذات الشواهد الغريبة لكن الواقع أغرب ومختلف عن التصورات، فالمشهد الأوليّ هو أعضاء ذكرية منتصبة تحت الشمس، كيفما تيمم وجهك هناك مجسمات حجرية متشابهة، يقف أحد الشبان في الرحلة إلى جانب أحدها ليجده أطول منه فينفجر ضاحكاً ويضحك الآخرون، يبدو الأمر أشبه بمعرض للأعضاء الجنسّية. تحاول "مِرسا" مشرفة الرحلة جمع الشباب والفتيات لتقدم بدورها بعض المعلومات، كأغلب السيدات الإيرانيات تبدو المشرفة قوية وواثقة من معلوماتها تبحث عن مكان مناسب ثم تقف بالقرب من تمثال لعضو أنثويّ وتسند يدها إلى التمثال وتقول: "كما هو واضح المجسمات لا تترك لك باب الخيال فهي أظهرت كل شيء".
المجتمع الايراني حساس جداً لجسد المرأة بينما يمكن المزاح والتكلم حول العضو الذكري بشكل أكثر حريةً
يضحك الجميع عالياً ويعلق شاب في الخلف ما أدراك بالأمر، يستمر الضحك. تعود "مِرسا" للحديث وتشير إلى المنحوتة القريبة تقول إن شواهد القبور تدل على جنس الميت حيث رُمزَ للرجال بأعضائهم الجنسية فيما رمز للنساء بالأثداء. يمعن الجميع النظر في المنحوتة إنها لا تشبه الثدي، المنحنيات مختلفة ولا علامات بارزة في الوسط، لكنها تصر على ذلك والحضور لا يعلق على الأمر، تستدعي الشاب صاحب السيارة التي رافقتنا من مكان إقامتنا في القرية وتقول أنا اعتقد أن الرواية الشفاهية التي يحفظها السكان المحليون هي الرواية الأصح، يقف الشاب التركماني وسط الحضور يقول نعم سمعنا من أجدادنا إن هذه المقبرة قديمة جداً وفيها مجسمات كثيرة بعضها للانسان وبعضها للحيوانات لم يبقَ منها إلا القليل، يضيف كما ترون أعضاء ذكورية للرجال وأثداء للنساء. تشكره "مِرسا" وتعطينا فرصة لأخذ صور للمقبرة، اقترب منها أسألها هل تعتقدين أن هذا مجسم لصدر إمرأة؟ تقول أنا أعتمد على المقالات العلمية القليلة المنشورة حول هذه المقبرة، أنظر إليها أقول ليس هناك نتوء بارز وسط الصدر استبعد أن تكون هذه التماثيل لنهدي إمرأة تقول وأنا إيضاً لكني لا استطيع أن أقول أنها تمثل العضو الجنسي لدى المرأة أمام الجميع، فالمجتمع الايراني حساس جداً لجسد المرأة بينما يمكن المزاح والتكلم حول العضو الذكري بشكل أكثر حريةً.
تبدو الصخور المنحوتة في المقبرة كأنها نابتة من الأرض بعضها قصير وبعضها الآخر أطول، بشكل واضح المنحوتات الأسطوانية تشبه العضو الذكري، فيما تشبه تلك الأخرى العضو الأنثوي بعض الشيء.
سمعنا من أجدادنا إن هذه المقبرة قديمة جداً وفيها مجسمات كثيرة بعضها للانسان وبعضها للحيوانات لم يبقَ منها إلا القليل، يضيف كما ترون أعضاء ذكورية للرجال وأثداء للنساء.وبينما كنا نتكلم عن الخجل والخطوط الحمراء كانت "فريال" تقوم بحركة بهلوانية أمام إحدى المنحوتات للعضو الذكري، جميع الفتيات خلعن الحجاب فلا شرطة قريبة من هنا ولا كاميرات مراقبة، فقط ثلاث عدسات احترافية تصور 30 شاباً وشابة مع مقبرة مليئة بالأعضاء. أربعة آلاف عام هو العمر التقريبي لمنطقة آثرية لم يتم التنقيب فيها بعد، يقول حارس المقبرة "لم تأتِ أي بعثة أثرية إلى هنا إلى الآن، حتى حراسة هذا المكان كانت متروكة للطبيعة فقط والزوار"، يبدو على الحارس الخمسيني الذي وصل للتو ملامح الغضب قليلاً ويطلب من الجميع رعاية النظافة وعدم رمي السجائر، فمنذ مدة نشب حريق هنا، يستأنف "امير حسين" المرشد السياحي كلامه فيقول: "لا حقائق واضحة عن هذا المكان ولا دراسات علمية، لكن منذ ست سنوات تناقلت وسائل الإعلام انباءاً عن تخريب المقبرة على يد بعض المتشددين الأمر الذي دفعنا لتكثيف رحلاتنا إلى هنا"، ينصحنا بالعودة لزيارة المكان في فصل الربيع، فالأجواء تكون نضرة ساحرة. دقائق وعاد الحارس لكن هذه المرة مع ابتسامة "بالطبع نشكر الجميع على القدوم إلى هنا فلا أحد يولي المكان أهمية وليس هناك معلومات دقيقة عن هذه المقبرة، لكن ما وصلنا عن أجدادنا أن هذه المقبرة أقدم بكثير من مدفن النبي خالد وعمه هناك " يشير بيده نحو مقام تعلوه قبة خضراء.
ننهي الصور الجماعية ونبدأ بالعودة فلا يمكن التوغل أكثر في صحراء التركمان ودون مرشد مختص بالمنطقة يمكن أن نتوه في المرتفعات وربما ندخل الحدود القريبة، في طريق العودة نمضي معاً بين الصخور مرة ثانية بعض الممرات الصخرية خطرة بعض الشيء، نقف جانباً لنفسح المجال لمجموعة سياحية أخرى لا تزال في طريق الذهاب نحو المقبرة، يقترب مني رجل مسن، يقول هل هناك بالفعل ما يستحق عناء هذا الطريق الأعوج؟
أجيب بحماس نعم هذا المعلم الأثري جميل جداً، فيعلق بسرعة كم أنتم جيل قليل أدب، أصمت وينفجر الرفاق ضحكاً.
نصل مرة ثانية إلى موقف الباص بالقرب من مقام النبي خالد، الزوار كلهم بأزياء محلية زاهية الألوان، لا مكان للعباءة السوداء هنا، بعض الغرباء من البلوش يختلفون مثلنا عن المنطقة، فالمذهب السني الذي يطغى على هذه المحافظة استقطب أعداداً من أهل السنة من جنوب البلاد ليستقروا ويعملوا هنا في كلستان، كل المدينة وريفها أقرب إلى تركمانستان من إيران ثقافياً. وفقاً للتاريخ الشفاهي للمنطقة هناك ثلاث روايات عن المقبرة التاريخية ومقام النبي خالد بن سنان؛ الأولى أقرب إلى الواقع تقول إن هذه المقبرة التاريخية ليس لها أيّة علاقة بالمدعو خالد بن سنان وما شواهد قبورها سوى رمز لعقائد خاصة لأقوام قديمة كانت هنا. الرواية الثانية تقول إن النبي خالد كان مؤمناً مسيحياً هرب مع أتباعه إلى هذه المرتفعات العالية من قوم كانوا من عبدة النار إلى أن حاصروه فطلب العون من ربّه فحول المهاجمين إلى صخور غاصت في التراب.
أما الرواية الثالثة فقد اجتهد أصحابها لتفسير تنوع شواهد القبور فقالوا إن معركة حدثت بين المؤمنين أيّ خالد وأتباعه وبين الكفار وسقط فيها مقاتلون من الطرفين وعند انتهاء المعركة دفن الجميع جنباً إلى جنب، لكن شواهد قبور الكفار كانت أسطوانية الشكل وشواهد قبور المؤمنين كانت على شكل صليب.
يبدو أن عالم الآثار الاسكوتلندي ديفيد ستروناخ (David Stronach) أول من قدم وصفاً دقيقاً لهذه المقبرة التاريخية في مقال طبع عام 1981 في مجلة تحمل اسم إيران، بينما تم تسجيل المقبرة الأثرية ضمن قوائم الآثار الوطنية المسجلة في ايران عام 2000 مما دفع المختصين المحليين لدراستها والبحث عن تاريخها.
كتب الباحث الايراني منصور مرادي في مقال عام 2003 أن المقبرة تحتوي على 600 منحوتة صخرية بيد بشرية يمكن توزيعها على ثلاث مجموعات:
- صخور اسطوانية تشبه العضو الذكري يرجح أنها شواهد قبور للرجال، يغطي بعضها من الأعلى قبعة طولها بين 1-5 أمتار.
- صخور على شكل صليب أو شكل صدر إمرأة أقصر من المجموعة الأولى وبعضها مميز جداً حيث يخيل للناظر أنها منحوتة لإنسان وضع يديه على خصره.
- صخور على شكل قرني كَبش حيث قدست الشعوب القديمة هنا وأغلبها من التركمان، هذا الحيوان.
ما دلالات هذه الصخور؟
تؤكد الدراسات القليلة المتوفرة عن هذه المقبرة التاريخية عدم وجود إي كتيبة تشير إلى تاريخ هذه المقبرة أو أصحابها، إلا إن أغلب التوقعات تشير إلى أن من عاش ودفن في هذه المنطقة جاؤوا من مناطق تركمانستان أو منغوليا، ومن الممكن أن يكونوا من اتباع الديانة الفالية، لكن لا آثار واضحة لمعبد ما في المنطقة.تتجمع بعض الفتيات بخجل وعلى الوجوه بعض الصدمة، طبعاً الجميع يعلم مسبقاً أن أهم محطة في هذه الرحلة هي المقبرة ذات الشواهد الغريبةمن المؤكد أن شواهد القبور تعبر عن خفايا خاصة لعقائد مرت من هنا، ففي ايران توجد عدة مقابر مميزة بشواهدها، فهناك قبور يعلوها تمثال أسد عند العشائر البختيارية تدل على تقديس الأسد في ميراث هذه العشائر، فيما دونت مهنة الميت على شاهدة قبره في مقبرة "دار السلام" في شيراز، أما في مقبرة "شهر يرى" في اردبيل شمال غرب ايران فقد نحتت على القبر وجوه دون أفواه. الأمر المؤكد أن الشعوب التي عاشت آلاف السنين في هذه المنطقة احترمت هذه الآثار ولم تسء لها، فأحد الشباب التركمان الذين شاهدناهم في مقام النبي خالد قال لنا "نحن نزور دائماً مقام النبي خالد بن سنان لكن لا نذهب إلى المقبرة، الطريق وعرة وليس هناك شيء لتشاهده". وعن تخريب المقبرة، قال أحدهم "نحن لم نقم بذلك ابداً هناك متشددون جاؤوا مؤخراً إلينا، يجب على المعنيين الاهتمام بها، فهذا الأمر ليس من واجب الناس". يعود الشاب التركماني إلى عائلته التي تعد طعام الغداء، يبدو أنهم في رحلة وليست زيارة دينية قصيرة، الامر يختلف عما تشاهده في بقية الزيارات الدينية في إيران، فكل شيء بسيط لم يتم ترميم بناء المقام الديني بالرخام ولم يزين بأفخر أنواع السجاد كما هو الامر في أغلب المزارات الدينية في ايران، فقط صندوق التبرعات هو من يساهم في تقديم الخدمات. يقول المدير العام للتراث الثقافي في محافظة كلستان ابراهيم كريمي: "عام 2015 وضعنا سياجاً للمقبرة التاريخية وخصصنا حراسة لها ونسعى الآن لتسهيل الطريق المؤدية إليها، لكن مدفن خالد نبي لم يوضع على لائحة التراث الثقافي في ايران ومسؤوليته تقع على أشخاص محليين دون أي صفة رسمية".
ويبدو أن النبي خالد بن سنان تحوم حوله أساطير مختلفة فلم يسلم الرجل من القصص التي تناقلها عنه العرب، بل قام الايرانيون بدعم سيرته بحكايا مختلفة لا نعرف مدى صحتها، كل ما في الأمر أنهم تبنوا النبي مستندين إلى عدة أحاديث أشهرها ما نقله الطبراني (عن ابن عباس إن بنت خالد بن سنان جاءت إلى النب فبسط لها ثوبه وقال بنت نبي ضيعه قومه). على الرغم من أن أهل مدينة بسكرة الجزائرية يعتقدون إن جثمان خالد بن سنان نقل مع الهجرات العربية إلى مدينتهم المعروفة إيضاً بسيدي خالد نسبةً لهذا النبي، فإن أهالي محافظة كلستان الايرانية متمسكون بروايتهم دون أن يبرروا للزائر لماذا اختار هذا النبي والمبشر أرضهم ليدفن فيها، وهل كان يدرك وجود معرض للأعضاء الجنسية على بعد أميال عنه، كل ما يمكن القول إن أهالي صحراء تركمن احترموا هذا المعلم الأثري ولم يقدموا على الإساءة له مع تمسكهم بالدين الاسلامي، بل كانوا نموذجاً جيداً لحماية الميراث البشري على مدى التاريخ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع