كلمة، ولحن، وصوت عذب، أضلاع ثلاث لإنتاج محتوى غنائي جيد، أحيانًا تختلف المعايير أو تختل، فنجد ذا الكلمة البذيئة والضعيفة، وصاحب اللحن الركيك، وحامل الحنجرة المؤذية يتصدرون المشهد، ويُشار إليهم بالبنان؛ ورغم هذا، فالجيد يبقى، لأن ما يُطرب الناس ويسمو بوجدانهم يمكث في الأرض، حتى لو مات صانعه، مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ، أو اعتزل مثل محمد الحلو، أو أبعدته الظروف الصحية مثل جورج وسوف.
تتغير الألوان الموسيقية، وتنافس الإيقاعات الغربية لوننا الشرقي، وتضربه أحيانًا في عقر داره، وتتفوق عليه، لنجد فارسًا يظل محتفظًا بهويته، ويُعلي من شأن مقامي الصبا والنهاوند، ويسمو بالكلمة الغنائية حتى تضحى حكمة تنسب إليه وتتردد أصداؤها بين أبناء الطبقات المختلفة، بداية من ذوي الياقات البيضاء، انتهاء بعمال الوِرش والمصانع، فينال عن جدارة واستحقاق لقب السلطان جورج وسوف.
«أنت غيرهم» يا أبو وديع
بالنظر للأضلاع الثلاث في مسيرة جورج وسوف، نجد أن اللحن الشرقي سمة مميزة له، لكنه في المقابل لم يغفل دور الكلمة الراقية، والجملة الرشيقة البليغة، السهلة الحفظ والسريعة الانتشار.. «إنت غيرهم يا أبو وديع». «اهتمام الوسوف بالموسيقى يعد العامل الرئيسي في اختياراته، فيستمع للحن، وينظر ما إذا كان سيُطربه أم لا، لأنه ظل طوال مسيرته الطربية محافظًا على الموسيقى الشرقية التي تربى عليها، ويعلم جيدًا أن جمهوره يميل لذلك اللون الذي بدأ في التواري في منتصف الثمانينيات ومستهل التسعينيات». بهذه الكلمات استهل الشاعر فوزي إبراهيم حديثه لـ"رصيف 22" عن تعاونه مع جورج وسوف، واصفًا إياه بأنه يحمل لونًا خاصًا به، شهد به جمهوره قبل فريق عمله، لافتًا إلى أن الكلمات التي يعمل أبو وديع على انتقائها بعناية هي أحد أبرز العوامل الرئيسية في نجاحه، مضيفًا: «أبو وديع يعلم أن أغلب جمهوره من البسطاء، لذلك يُصر على الكلمة السلسِة، والقصة التي تشبه حياتهم الشخصية».جورج يتبع إحساسه، دون النظر للتغيرات من حوله، معتمدًا على الثقة التي إذا توافرت في شاعره وملحنه، يتشبث بهما، فقد تعاملت مع مطربين كُثُر، لم أجد مثله في الإصرار على ترسيخ هويته مهما حدث
كل فنان دخل الوسط الفني وهو في مرحلة الطفولة، تجد لديه جانبًا من الشجن في حياته الشخصية تنضح به اختياراته للأغاني، والوسوف واحد من هؤلاء، خاصة أنه لم يجد في مستهل حياته عرابًا يهديه للون محدد، لكنه بذكائه سار خلف مشاعره الشخصيةويضيف صاحب «للهوى أحكام»: «جورج يتبع إحساسه، دون النظر للتغيرات من حوله، معتمدًا على الثقة التي إذا توافرت في شاعره وملحنه، يتشبث بهما، فقد تعاملت مع مطربين كُثُر، لم أجد مثله في الإصرار على ترسيخ هويته مهما حدث». يحكي فوزي عن قصة كتابته لواحدة من أشهر أغنيات جورج «لو كل عاشق»، قائلًا: «اعتمدتُ على حسي الفني قبل أن تذهب هذه الغنوة لأبو وديع، فطعّمتها بالطابع الوسوفي، بأن أضفت لفظة الهوى في مطلعها، بعدما كانت: لو كل عاشق يختار نصيبه.. مكانش عاشق يا هوى فارق حبيبه، فبإضافة تلك الكلمة للمطلع، انصهرت الجملة ضمن الكيان الوسوفي، بعد أن لحنها أمجد العطافي، أحد الأسماء الهامة في مسيرة جورج، بعد شاكر الموجي، وصلاح الشرنوبي».
الوسوف يغزو مطربي البكائيات بسلاحه البتّار
في ثمانيينات القرن الماضي، انتهجت الأغنية العربية نهجًا مغايرًا عن ذي قبل، فمن حيث اللحن اعتمدت على تطعيمات غربية، وهو تيار قاده عمرو دياب، ومن سار على دربه، وآخر ارتكن إلى المقامات الشرقية الكلاسيكية، مثل هاني شاكر، وعلي الحجار ومحمد الحلو، ومدحت صالح، وتيار متفرد سار فيه محمد منير وحده معتمدًا على السلم الخماسي المعبر عن نشأته النوبية، حتى أتى جورج من رحلة لبنانية ــ باريسية، محملًا باللون الشرقي ساعده فيه رفيق دربه الملحن شاكر الموجي، صاحب أسطورة أبو ديع الخالدة «اللي تعبنا سنين في هواه»، لينتج لونًا وسوفيًا خالصًا، حاول البعض تقليده، لكنهم سقطوا بعد ثاني تجربة، أبرزهم وائل جسار، الذي استهل مشواره بـ«الدنيا علمتني» بنفس الطريقة الوسوفية، إلى أن وجد ضالته في اللون العاطفي الذي ينتهجه حاليًا. أما من حيث الكلمة، فمن اعتمد على التطعيمات الغربية لم يأبه بتقديم كلمات على مستوى جيد، ومن سار على الدرب الكلاسيكي، انحسرت شعبيته بين فئة المثقفين، فخلَت ساحة الشعر الغنائي لما يقدمه أبو وديع بسلاحه البتّار، من خلال موضوعات عاطفية، بكلمات شعبية، ولحن شرقي. إنها الخلطة الوسوفية بامتياز. في ذلك التوقيت، كان اللون الشعبي يشهد دخول تيار آخر، اكتسح سوق الكاسيت، بالاعتماد على البكائيات أو المظلومية العاطفية، استهلها حسن الأسمر بـ«كتاب حياتي»، وحمل الراية من بعده عبد الباسط حمودة، وطارق الشيخ، ومجدي طلعت، حتى وصلنا حاليًا لأحمد شيبة صاحب «آه لو لعبت يا زهر». لم يدَع الوسوف الساحة البكائية تخلو من إبداعه، فحمل سلاحه الذي لم يضاهِه فيه أحد، مُستعينًا بالكلمة الرشيقة، والموضوع الشجي، واللحن الشرقي، والعٌرب الطربية، بدأت بنقطة التحول مع شاعر الغلابة أحمد فؤاد نجم، بأغنية «صياد الطيور» سنة 1997، ومن بعدها سطر جورج بكلمات أغنياته أسطورة مطرب المظلوميات الراقي، الذي يُجرح فيسامِح ويرضى بالنصيب، يُخان فيعذُر ويكتفي بالعتاب الخلوق مبتعدًا عن عشاق آخر زمن، يهجر فيُعلن ندمه: «أنا آسف لأني مكنش غصب عني». «جورج وسوف أول من انتهج اللون الشعبي المودرن، تحديدًا في منتصف التستعينيات بأغنية كلام الناس».. هذا ما أكده الناقد الموسيقي مصطفى حمدي في حديثه لـ«رصيف 22»، مشيرًا إلى أن الكلمات التي يختارها جورج لا تصنف شعبية، لكن موسيقاه الشرقية ذات السلطنة، هي التي صبغت الشعر الذي يقدمه أبو وديع بالصبغة الوسوفية الخاصة به والتي ميزته عن غيره. ويضيف: «فلسفة جورج وسوف في انتقاء الكلمات ذات الصبغة البكائية، يمكن التأسيس لها من ألبوم (طبيب جراح) سنة 1999، الذي ضم أغنيات من كلمات صفوح شغالة، وفوزي إبراهيم، وأحمد شتا، وعوض بدوي». ويشير حمدي إلى أن المفارقة في الشعراء الذين تعاونوا مع جورج وسوف، أنهم دخلوا تحت المظلة الوسوفية، فنراهم يكتبون لآخرين كلمات غارقة في النكد، وهو ما حدث مع فوزي إبراهيم الذي كتب لإيهاب توفيق «ملهمش في الطيب»، وعوض بدوي الذي كتب لحلمي عبد الباقي «ضاع اللي ضاع»، في المقابل نراهما مع جورج يكتبون كلمات ظاهرها حزين وشجي، وباطنها ينضح بالعاطفية. وبسؤاله عن سبب الحالة البكائية التي انتهجها جورج وسوف في مسيرته، يقول مصطفى حمدي: «كل فنان دخل الوسط الفني وهو في مرحلة الطفولة، تجد لديه جانبًا من الشجن في حياته الشخصية تنضح به اختياراته للأغاني، والوسوف واحد من هؤلاء، خاصة أنه لم يجد في مستهل حياته عرابًا يهديه للون محدد، لكنه بذكائه سار خلف مشاعره الشخصية». وتابع: «المظلومية في أغنيات جورج وسوف قد تكون انعكاسًا لعلاقاته العاطفية أو حياته الشخصية، فيرى فيها عزاءً لنفسه، نظرًا لمروره بظروف صحية واجتماعية صعبة».السلطان يعلّم شعبه الحكمة واحترام المرأة
رغم ما تتسم به أغنيات جورج من بكائيات جراء خيانة الأحبة، وغدر الزمن، وحسد الأقربين، فأبو وديع يُقابل كل تلك الإساءات بالإحسان والعفو، مغلفًا ذلك بحِكمٍ بليغة، بداية من إيمانه بأن كلام الناس لا يقدم ولا يؤخر، ويحب حبيبته مهما قال الناس رافعًا في هواها الرأس، مرورًا بتأكيده أن أهل الغرام مساكين، وأن لو كل عاشق اختار نصيبًا لم يكن أحد فارق حبيبه، لأن للهوى أحكامًا، والمشاعر جميعها بلا استثناء سلف ودين، انتهاءً بأن يكون الإنسان صابرًا وراضيًا على ما يمر به من أزمات، لأن الدنيا «لسه بخير». أما الحبيبة فهي مصونة مكرّمة في عقيدة الوسوف حتى وإن هجرت وباعت، وأقصى ما يفعله تجاهها هو العتاب الخفيف والانسحاب برقي، فهذا «زمن العجايب»، لأنه «ما دام خلاص بجد أنا زي أي حد.. مش هنسى نفسي تاني وهحط بيننا حد»، والدنيا انقلب حالها والحب تمت إهانته على يد «عُشاق آخر زمن».رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 6 ساعاتHi
Apple User -
منذ 6 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 5 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا