مرت أصوات نسائية رائعة في الموسيقى الإيرانية، واشتهرت، وأسرت قلوب الجماهير، لاسيما قبل الثورة الإيرانية، نظراً للمجال المفتوح لأصوات المطربات آنذاك. أشهر هذه الأصوات هو "كوكوش" في البوب الإيراني، و"دِلكَش" و"مرضية" في الموسيقى الفارسية التقليدية، ولكل منها محبوه ومناصروه. وثمة صوت وقع بين هذين الاثنين وبرع في كليهما: هايده.
وقد لا تجد من يختلف على عظمة صوتها وروعته. هايده هي المطربة التي ما زال صوتها حاضرا حتى اليوم في الشارع الإيراني، في الحافلات المتنقلة من مدينة إلى أخرى، في التاكسيات، وفي شوارع طهران والمدن الأخرى، وعند وحدة الأشخاص، كما أنه يحدث كثيرا أن تنتهي سهرات الإيرانيين الصاخبة في بيوتهم بأغنية شجية لها فتسمعهم يجارونها بعد منتصف الليالي لتكون مسك ختام لياليهم. يسمعها المخضرمون بكثير من الحنين إلى تلك الفترة وأيام شبابهم، ويستعذبها الشباب ويتفاعلون مع أغانيها عن الهجر والغربة والاستسلام للسُكر والحب.
يا ذا العينين السوداوين، لماذا لم يعد في عينيك كل ذلك الوفاء الأول؟/ قل لي يا ذا العينين السوداوين، إن كان قلبك لم يعد يهوانا بعد/ همتُ بك وخسرتُ من أجلك كل شيء/ والآن قد نفد صبري في حبّك/
في هذه الغربة التي أنا فيها، أوشك على الموت، وأنت لا تفهم/ أريد أن أمسك يدك بيدي، وأنت لا تفهم/ أنا مازلت أحبك وأنت لا تفهم/ ولم أحب بعدك، وأنت لا تفهم.
يعتقد الكثير أن صوتها من أفضل الأصوات في تاريخ الموسيقى الإيرانية، فمن اكتشف موهبتها واعتنى بصوتها كان الموسيقار الإيراني العملاق وعازف الكمان الشهير "علي تجويدي"، وقد عُرف عنه اكتشاف الأصوات العبقرية. وهي التي كانت قد بدأت التتلمذ على يده عام 1966، غنت أولى أغانيه المؤلفة عام 1967 وكان عمرها 25 عاماً. حققت الأغنية نجاحاً وشهرة واسعين، وفي عام 1968 قامت إحدى شركات الصوتيات في طهران بتسجيل هذه الأغنية على أشرطة بيعت على نطاق واسع.كانت هايده تعرف المقامات بشكل جيد، وعندما كانت تغني لم تكن تخرج من مقام إلى آخر. أظن أن تجويدي كان قد علّمها. لم نقل لها كيف تغني، بل هي كانت تعرف.
كثيراً ما نعتتها الطائفة المتشددة في إيران بـ"مطربة الطاغوت"، مثلها مثل كثير من المطربين الذين كانوا يغنون قبل الثورة الإسلامية في إيران، ثم اضطروا إلى مغادرة البلاد، ومتابعة الغناء من خارج إيران.كلمات الأغنية كانت للشاعر الإيراني الشهير "رَهي معيّري" وكان قد أكمل كتابة القصيدة وهو على فراش المرض، ثم مات شاباً وجميلاً، ما ضاعف من تأثيرها إلى جانب صوت "هايده" الشجيّ وألحان "تجويدي"، معنونة بـ"الحُرّ". أخذت هايده تغني في البرنامج الإذاعي الشهير "كُلهاي تازه" (الأزهار النضرة)، الذي كان يشارك فيه كبار الموسيقيين الإيرانيين، فجمعتها برامج مع أشهر المطربين في إيران كـ"محمد رضا شجريان"، و"كُلبا"، و"داريوش". كان صوتها يقارن دائماً بصوت المطربة الإيرانية السابقة لها في الجيل "دِلكَش" ذات الصوت والأداء الرائعين، كما أنها كانت تتمتع بطبقة صوت نادرة في نطاق كونتر ألتو. وقد تركت هايده ما يقارب 200 أغنية، و30 ألبوماً موسيقياً طوال عقدين من الغناء، إلى جانب تسجيلات إذاعية ومواويل في نطاق الموسيقى التقليدية الفارسية.
كل ليلة أذهب إلى الحانة/ وأسأل عن الخمر والقدح/ أرتاد الحانات متعبة من الألم/ وأبحث عن قلبي/ قلبي ضائع، لكنني سوف أعثر عليه/ وإن وجدتُه يحبك، ويل له، فأنا سوف أفضحه.
خلال السبعينيات وسّعت هايده مجال أغانيها لتدخل حقل موسيقى البوب الإيرانية، فتعاونت مع أشهر ملحّني البوب في إيران من مثل "أنو شيروان روحاني" و"محمد حيدري". وقد التقاها الأخير لأول مرة في بيت أختها "مَهَستي"، التي كانت قد بدأت الغناء بثلاث سنوات قبل أختها وأصبحت مطربة ناجحة، فيتذكر حيدري: "كانت هايده تعرف المقامات بشكل جيد، وعندما كانت تغني لم تكن تخرج من مقام إلى آخر. أظن أن تجويدي كان قد علّمها. لم نقل لها كيف تغني، بل هي كانت تعرف." ويذكر الإعلامي الإيراني "شهرام ميريان": "معرفتي بعائلة هايده تعود إلى حين تحسن العلاقات بين إيران والعراق، وكان الشاه قد وقّع اتفاقية مع صدام حسين في الجزائر. بعد ذلك زار صدام إيران، وفي إحدى الأمسيات التي كانت تقام في قصر الشاه خلال إقامته في طهران، غنت الأختان أمام صدام حسين. وبعد أن عاد صدام إلى العراق، دعا هايده ومهستي إلى هناك، وذهبتُ أنا أيضاً إلى بغداد، على رأس فريق إعلامي من قبل وزارة الثقافة والفن، وبرفقة حوالى أربعين راقصة." وفي تتمة حديثه يصف ميريان شغف الجمهور العراقي بغناء هايده، وطلبه لإعادتها بعض الأغاني. ولدت هايده عام 1942 في إحدى قرى محافظة كرمانشاه الكردية، غربي إيران، وكان اسمها الأصلي "سكينة دَده بابا"، وفي ما بعد اختارت لنفسها "هايده" كاسم فني. غادرت هايده إيران متجهة إلى لندن عام 1978، بضعة أشهر قبل حدوث الثورة الإسلامية، كما فعل كثير من الفنانين آنذاك، ومن ثم رحلت إلى أمريكا، وبقيت في لوس أنجلوس حتى موتها عام 1990 بسبب جلطة قلبية، وقبل أن تبلغ عامها السابع والأربعين، إذ كانت تعاني من مرض السكريّ وارتفاع ضغط الدم. وجاءت الجلطة بعد حفل لها في سان فرنسيسكو، وتوفيت في اليوم التالي. في الثمانينيات، وهي مغتربة، كان يزداد عدد سامعيها ومحبّيها خارج البلاد وداخلها يوماً بعد يوم. فكثير من أغانيها التي كانت تحمل ثيمة هجر البلاد والابتعاد عن الوطن، تفاعل معها الإيرانيون المغتربون، كما أنها طالما عبرت عن حزنها الأكبر بأنه الابتعاد عن وطنها. حين توفيت كانت أكثر المطربات الفارسيات شعبية دون منافس، وقد شاركت في جنازتها حشود غفيرة من محبّيها وكثير من الفنانين في أمريكا، ووري جثمانها في مقبرة "وست وود" في لوس أنجلوس. كما أقيم حفل تأبين لها في جامع "الجواد" في طهران، رغم المعارضات، فكثيراً ما نعتتها الطائفة المتشددة في إيران بـ"مطربة الطاغوت"، مثلها مثل كثير من المطربين الذين كانوا يغنون قبل الثورة الإسلامية في إيران، ثم اضطروا إلى مغادرة البلاد، ومتابعة الغناء من خارج إيران، لا سيما من أمريكا.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون