يسبق الغرب العالم العربي في أشياء عديدة، ربما لأسباب ثقافية، لم نتجاوز الكثير مما تجاوزه الغرب، إشكاليات الدين، الحداثة، العنصرية، النظرة للمرأة، ولأن الفن هو مرآة المجتمع، كما يقال، فهو كان وما زال معبراً عما تحمله المجتمعات من أفكار وصراعات وتناقضات.
ولأن الغناء أوسع الفنون انتشاراً ولأن للموسيقى لغة تتجاوز اللغة، فكانت النتيجة أن يحمل على عاتقه هموم وأحلام الشعوب. يمكن تقسيم الغناء، بشكل عام، إلى نوعين طبقاً للموضوعات ونوع المزيكا، غناء main stream تجاري أو سائد يتماشى والذوق العام في اختيار موضوعاته وموسيقاه كغناء عمرو دياب، فهو مثال للتيار الشعبي "”pop التجاري السائد.
أما النوع الآخر فهو الغناء البديل "alternative" الذي يحمل نزعة تمردية على السائد على مستوى موضوعاته أو إيقاعاته.
في ما يلي مقاربة بين نشأة أنواع موسيقية "بديلة" حينها كانت بداية لتيارات تمرد على السائد، بأداء أكثر النساء حريةً في عالم الموسيقى.
البلوز والجاز وقضايا العنصرية: موسيقى بديلة للمهمشين والأقليات
يمكن أن نستوعب فكرة الظلم الاجتماعي الذي تتعرض له المرأة باعتبارها كائناً أضعف، في إطار غلبة القوة، كما يمكن أن نفهم جذور استعباد البيض لأصحاب البشرة السمراء في أمريكا، لكن إذا صنعت نساء سمراوات في الوقت نفسه أسطورتهن الغنائية فلا شك أنها الثورة بعينها. ساهمت النساء السمراوات بفاعلية كبيرة على مدار سنوات في تأسيس موسيقى بديلة في أمريكا، البدايات كانت في سبعينات القرن التاسع عشر مع "مطربين يوبيل فيسك" Fisk Jubilee singers وهي مجموعة غنائية أمريكية من أصول إفريقية أسستها مجموعة طلبة من جامعة "فيسك" وهم من المؤسسين الأوائل لنوع من الموسيقى الدينية التي انتشرت بين "الزنوج" -كما كانوا يعتبرونهم آنذاك- أثناء عملهم بالسخرة في المزارع الأمريكية، ثم تطورت الفرقة إلى غناء أنواع موسيقية أخرى، لتتأسس معها موسيقى "البلوز". [caption id="attachment_150716" align="alignnone" width="1000"] Bessie Smith[/caption] وبالرغم من أنه لا يُعرف على وجه الدقة توقيت نشأة موسيقى البلوز، يمكن اعتبارها انتاجاً خاصاً بعالم المهمشين والأقليات، فهذا النوع كان يختص بأصحاب البشرة السمراء الذين كانوا مستعبدين في الجنوب الأمريكي، وانتشاره بما حمله من خصوصية ثقافية مغايرة كان على عاتق المغنيات الأمريكيات من أصل أفريقي، مثل بيسي سميث التي لقبت بإمبراطورة البلوز، التي اكتشفتها "ما ريني" أم البلوز وواحدة من رائدات هذا النوع ، وألبيرتا هانتر وكلهن يشتركن فى أنهن سمراوات. في الستينيات من القرن العشرين ومع تصاعد حركة الحقوق المدنية ومناهضة الفصل العنصري بين "البيض" و"السود"، في أمريكا، ظهرت أنواع موسيقية أكثر تحرراً حملت موضوعاتها تمرداً ضد العنصرية، ونادت كلماتها برد حقوق الأقليات، التي كان غالبية أعلامها من جذور جنوبية، مثل بيسي سميث، وأريتا فرانكلين التى زادت شهرتها كثيراً فى ستينيات القرن الماضي، وفي عام 1967 وصلت إلى نجاح تجاري كبير وبيع من أغانيها أكثر من 12 مليون نسخة. [caption id="attachment_150722" align="alignnone" width="1000"] ما ريني[/caption] ومنذ فترة ليست بالقليلة أصبحت المغنيات الأمريكيات يستخدمن كلمات جنسية صريحة في أغانيهم ولم تعد حكراً على الذكور، لكن عندما تحمل أغنية لمريم صالح في ألبومها الأخير "الإخفاء" كلمات مثل "شرموطة، قحبة" تقوم الدنيا ولا تقعد.مصريات أسسن لتيارات موسيقى بديلة
أسست ثورة 25 يناير في مصر لنوع من الموسيقى البديلة حمل أفكاراً سياسية وموضوعات حملت قدراً من التمرد والمناداة بالحرية، صحيح أن هذا النوع ظهر قبل الثورة، لكن مناخ الحرية والانفتاح غذّي ظهور بدائل وتعميمها في كل الاتجاهات، والموسيقى ليست استثناءً. على عكس كثيرين يرون أن الثورة عززت من حضور الفن البديل على الساحة، بعدما كانت إرهاصاته قبل الثورة في دوائر ضيقة، وأخذت تتسع مع الوقت، يرى المنتج الموسيقي والناقد رامي أبادير أن الموسيقى البديلة كانت ستظهر وتنتشر بغض النظر عن الثورة، وأن بعض الفرق الغنائية حققت نجاحاً مثل "وسط البلد". يمكن القول إن مريم صالح ودينا الوديدي ويسرا الهواري من اللواتي أسسن لنوع مختلف من الغناء ظهر وانتشر مع الحالة الثورية واجتذب قطاعات كبيرة من المتابعين، فاسم مريم صالح ارتبط لدى العديدين بالغناء المقاوم والمتمرد على مستوى المواضيع أو الموسيقى.مريم صالح: النشاز السريالي الجميل
مريم صالح هي حالة في حد ذاتها، يمكن أن يختلف الناس حولها، لكن الأكيد أن لها جمهوراً واسعاً من الشباب، لاحقتها الاتهامات، وما زالت، بقلة جودة الصوت وطريقة تقطيع الكلمات التي تميل للغربي. الانتقاد الأبرز لها هو أنها لا تغني بل تنشز، مريم لا تهتم بالرد على كل الانتقادات وتغني على طريقتها، وربما ردت بشكل غير مباشر في كلمات أغنيتها "أنا مش بغني، أنا مش بقول، أنا مش بنام أنا مش بقوم، أنا بالأخص وع العموم أنا أي حاجة وكل يوم". يرى أبادير في حديثه لرصيف22 أنّ مريم لا تنشز على الإطلاق لكنها تغني بعفوية وعلى طريقتها، والنشاز ذاته يمكن المجادلة بشأنه حيث أن هناك نشاز جيد ونشاز سيئ إن جاز التعبير. برأيه مريم هي الأقدر على الاستمرار ضمن الثلاثي الذي يضمها بجانب "الوديدي والهواري". ويشير إلى أن صالح تتحرك في مساحة غنائية تعرفها جيداً وتطورت بشكل معقول عن الماضي، وهو ما لا يجده بنفس القدر عند دينا ويسرا. واجه ألبوم مريم صالح الأخير الذي صدر في 2017 تحت اسم "الإخفاء" انتقادات عدة، خاصة أغنية "تسكر تبكي" التي حملت بعض الألفاظ والتعبيرات الصريحة التي اعتبرها قطاع واسع من المصريين ذوي التوجهات المحافظة "فجّة" ولا تناسب الذوق المصري العام، فالأغنية تقول في بعض مقاطعها "لجل دماغك مش مظبوطة ولجل الحلوة كانت شرموطة" وفي مقطع آخر لجل الصُحبة كانت قَحبة ولجل الضحكة طلعت ناحبة". كلمتان اعتبرهما العديد لا يجوز أن تحويهما أغنية، فشرموطة وقحبة تعنيان عاهرة في الدارجة المصريّة. لكن يختلف رامي مع النقد الأخلاقي المحافظ لمريم، فيرى أنها حرة في قول ما تريد، ويرد على منتقديها بأن لدينا ما هو أسوأ إذا اعتبرنا أن ما قالته سيئ، "ممكن تخسر بعض جمهورها لكن بالتأكيد هتكسب ناس جديدة شايفة إنها عفوية وبتقول كلمة في سياقها دون تعمد ابتذال" يقول أبادير.دينا الوديدي: مزيج الطرب والحداثة
بدأت دينا رحلتها الموسيقية من خلال فرقة الورشة المسرحية، وفي الورشة ارتبطت بالغناء التراثي الغنائي وبدأت في اكتشاف نفسها تحت إشراف الموسيقي وعازف العود ماجد سليمان. لدينا أغانٍ تحمل كلماتها اشتباكات واضحة مع السياسة أو تحمل وجهة نظر مقاومة، فعندما ظهرت في عام 2013 في برنامج "البرنامج" مع باسم يوسف، وكان حينها يحكم الرئيس الاسلامي محمد مرسي، غنت له "الحرام هو الحرام يا عم يا بتاع الكلام، الحرام هو الكلام اللي كله يا عم كدب"، كلمات الشاعر منتصر حجازي. ظهورها مع باسم يوسف أكسبها جمهوراً جديداً بلا شك، هو الجمهور الذي كان ممتلئاً بحالة ثورية ضد حكم الإسلاميين وظهر هذا في كلمات أغنية "دين الجدعنة" التي تقول في مطلعها "أدين بدين الجدعنة وبدين رفاق الدرب وبقولة إحنا مش أنا في المعمعة والضرب" للشاعر مصطفى ابراهيم الذي ارتبط اسمه بالثورة، وغنتها أيضاً في ظهورها التلفزيوني اللافت.يسرا الهواري.. "عمل بي بي"
نالت يسرا الهواري نصيبها من الظهور الغنائي أثناء الثورة بعدما قدمها سلام يسري صاحب "مشروع كورال" المشروع الغنائي الجماعي الأشهر أثناء الثورة. كانت بدايات يسرا في فرقة الطمى المسرحية في عام 2007 كممثلة، ثم انتقلت منها للغناء والمساهمة في "مشروع كورال" وعملت أيضاً مذيعة لفترة في الإذاعة المصرية "نجوم إف إم" في برنامج خاص بموسيقي "الأندرجراوند". كانت ليسرا أغانٍ ذات مضمون سياسي وحقوقي واضح ، أبرزها الأغنية التي تقول فيها " أدام السور أدام اللي بانيه، أدام السور، أدام اللي معليه وكمان قدام اللي واقف يحميه، وقف راجل غلبان وعمل بي بي، على السور واللي بانيه واللي معليه واللي بيحميه" وتزامنت مع بناء الحكومة المصرية أسواراً في مداخل الشوارع الرئيسية بميدان التحرير، وظهرت الهواري حينها تعزف الأُكورديون بجانبها. وبالرغم من أنها كانت ضمن المؤسِّسات لغناء بديل، ظهر مع الثورة وحمل أفكارها، إلا أن أبادير يرى أنها ضعيفة فنياً، صوتاً وأداءً، ولم تتطور منذ ظهورها وتسير في المنطقة نفسها، فالألبومها الأخير "نقوم ناسيين" الذي صدر العام الماضي هو شبيه بما أنتجته مسبقاً.الوديدي وصالح: بين الكلاسيكية المشتتة والجنون المستقيم
اشتركت مريم صالح ودينا الوديدي في أغنية اسمها "العرس" ولاقت نجاحاً كبيراً وسط جمهورهما، الذي يتقاطع بالطبع فيما بينه، فيمكن القول إن غالبية مستمعي مريم هم جمهور لدينا أيضاً، إلا أن كل واحدة لها لون خاص تمتاز به عن الأخري. عندما تريد أن تفرغ انفعالاتك أو تواسي أحاسيس الضياع والعبث بداخلك ستكون مريم خير رفيق بأدائها العفوي التلقائي المتوتر أحياناً الذي يعكس توتر وتشظي أحلام وانفعالات هذا الجيل. لكن إذا أردت أن تستمع لموسيقى وصوت يميل إلى الطرب الممتزج بروح الحداثة فاستمع إلى دينا، لو كان مزاجك يحتاج الهدوء والاسترخاء نسبياً، فحتماً ستسكن ابتسامات دينا وعينيها الصافيتين ووجهها الودود قلبك، ستضمن معها قدراً معقولاً من الانبساط. تتحرك الوديدي في منطقة ما بين الغناء الكلاسيكي، فهي تستخدم العُرب والانتقالات بين المقامات الموسيقية طبقاً لمدارس معينة، والغناء الحداثي البديل، فهي تحاول مزج التراث بالمعاصرة، ونجحت في ذلك بشكل كبير. لكن أبادير يرى أن الوديدي لا تسير على خط واحد مثلما تفعل مريم، فالأولى مشروعها الغنائي مشتت قليلاً وتريد أن تجرب كل شيء وتخوض مناطق متعددة ومختلفة، حتى تجد نفسها بشكل أفضل، فهي لم تصل بعد لمرحلة نضج كامل، ويؤكد أنه لا يوجد مغن يمكنه التجريب طوال مسيرته، لكن مريم يظهر لديها خط واضح وتسير عليه باقتدار وبتطوّر أكبر.ياسمين حمدان: ثورية الصوت والأداء
ثورية المغنية والملحنة اللبنانية ياسمين حمدان لا تشعر بها فقط في كلمات أغانيها السياسية أو المحملة بالدلالات الثقافية المغايرة لطباع المجتمع العربي المحافظ، لكنها ثوريتها تمتد لتظهر في أدائها وملابسها وديكور "كليباتها" المختلف والمميز وحتى في طريقة أدائها الغنائي. صورها المتعددة بالسيجارة لا تعتبر معتادة على الشعب العربي، حتى كلمات أغنياتها ثورية من نوع خاص وتحمل إيحاءات تجريبية مخلوطة بنكهة غربية في أداء أغنياتها وتقطيع الكلمات واللحن. "السح أدح أمبو، البيه شنير أبوه، أيه الصنف الزفت ده، يلعن أبوك" كلمات أغنية السح إدح أمبو التي غنتها ياسمين، وهي أغنية شهيرة للمطرب الشعبي المصري أحمد عدوية، أعادت حمدان أداءها بلحن جديد ومساحات تجريبية أكبر. من أشهر الأغاني التي أعادت "حمدان" إنتاجها بشكل مختلف بنكهة جديدة وألحان وموسيقى غربية، هي "لا مش أنا اللي أبكي" من كلمات حسين السيد وألحان وغناء المطرب المصري الراحل محمد عبد الوهاب.غالية بن علي: الشعر الكيرلي والاحتماء بالثورة
غالية بن علي هي مغنية تونسية لقبت بسفيرة الغناء العربي، واشتهرت أثناء ثورات الربيع العربي، وخاصة في مصر. هي متعددة المواهب، راقصة ومغنية وممثلة أيضاً، فقد شاركت بعدة أفلام منها فيلم "موسم الذكور" كما ظهرت في دور راقصة في فيلم "سوينغ" للمخرج "توني جاتليف". شعرها الكيرلي الكثيف هو أهم ما يميز شكلها، كثيرون يعتبرون الشعر المجعد هو نوع من الثورية التي تظهر في الاحتفاء بالمختلف، على عكس مقاييس الجمال الشائعة في العالم العربي التي تحتفي بنعومة الشعر وطوله وسواده. أما على المستوى الصوتي فأسلوب غالية القوي وحضورها المبهر والجريء على المسرح هو أهم ما تتميز به، وتجيد أيضاً اللعب بصوتها، الذي يمتلك عذوبة ورقة عندما تريد تطويعه، والتحليق في سماء الحرية.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون