لازمت ظاهرة الإرهاب موجة من الخلافات، بينما شكّل الاتفاق على تعريف محدّد لها، فضلاً عن تحديد منشئها وأسبابها، أحد أبرز أسباب الخلاف. وفيما رأى عدد من المعنيين أن الظاهرة نتاج لفلسفة الحداثة الغربية، جيّرت سلطات عديدة المصطلح لقمع التوجهات السياسية والشعبيّة المناهضة لها. حول هذه الإشكاليّة، كان لرصيف 22 حوار مع الفيلسوف والمفكر السوري خلدون النبواني. والنبواني مهتم بالشأن السياسي، ومترجم لكتاب "الفلسفة في زمن الإرهاب" - حوارات مع جاك دريدا ويورغن هابرماس، ومؤلف كتاب "في بعض مفارقات الحداثة وما بعدها"، فضلاً عن مؤلفات أخرى باللغتين العربية والفرنسية. هناك خلاف كبير حول تحديد مفهوم الإرهاب، بمَ يرتبط هذا الخلاف؟ مصدر الخلاف ناشئ بالأساس عن عدم رغبة القوى السياسية، التابعة لدولة ما، أو القوى الدوليّة الكبرى بتحديده أو إعطائه تعريفاً يمكن من خلاله تمييز ما هو إرهابي من عداه. وبمعنى آخر، مشكلة التعريف هنا ليست معيارية، لغوية، اصطلاحية أو فكرية وإنما قبل أي شيء هي مشكلة مصالح السياسة المتعارضة. بترك المصطلح مائعاً فضفاضاً، ليناً أو سائلاً، تستطيع القوى توظيفه وإعادة استخدامه كل مرّة بحسب مصالحها، فتُضفي تارة نوعاً من الشرعية الزائفة على حروبها وتصف تارة أخرى خصومها بالإرهابيين. نجد هذا بوضوح في الأنظمة السياسية العربية، مثلاً عند وضع كل المعارضين لها في سلة واحدة ووصفهم بالإرهابيين. هنالك من يرى الإرهاب كاستخدام غير شرعي للعنف لأهداف سياسية. من يحدّد شرعية استخدام القوة؟ الذي يجب أن يحدّد شرعية استخدام القوّة هو القانون المتمثِّل في دساتير كل بلد والذي يحدِّد بشكل واضح في إطار الديمقراطيات المدى الذي يُسمح فيه باستخدام القوة. فلا يُسمح مثلاً لبلد ديمقراطي باستخدام القوة ضد متظاهرين يعارضون سياسات الحكومة كما تفعل الدكتاتوريات العربية، على سبيل المثال.
مفاهيم مثل الأخلاق، العقل، الدولة، الحق... تعريفاتها متباينة لدى المرجعيات الفلسفية الكبرى لكن هناك شرح لما تقصده بهذه المفاهيم. في المقابل، السياسة لها مصلحة في تمييع التعريفات بما يتوافق مع مصالحها الآنية
لا شك أن الفلسفة قادرة على مساعدة السياسة في إيجاد تعريف للإرهاب خالي من اللبس، بالمعنى العمليّ لا النظريّ... لكن من يريد من السياسيين أن يصغي للفلاسفة؟لا شك أن العدالة تحتاج لقوّة كي تفرض نفسها، لكن العدالة بشكلها القانونيّ تحتوي شيئاً من القوّة والعنف، من دون الغوص هنا في تفاصيل الكامن العنفي للقانون الذي أشار إليه كل من فالتر بنيامين وجاك دريدا، إلا أن القانون الحديث القائم على معيارية تحترم حقوق الإنسان ومساحة الحريات الخاصة والعامة يظل هو المخوّل في تحديد آليات استخدام القوّة ومحاسبة من يتجاوز نصوصه. بعدما أُجبرت الثورة السورية على التسلّح، مارست شكلاً من الإرهاب، هل يمكن تبريره باعتباره "مقاومة شريفة"؟ مرّة أُخرى، يحيلنا هذا إلى الحدود التي يُراد لها أن تكون غير واضحة بين العنف الثوري المشروع وبين محاربة الإرهاب. لم تكن الثورة السورية في بداياتها عنفية أبداً ولم تكن تغازل الإرهاب ولو من بعيد، لكن النظام السوري أصَّر – عن طريق اقترافه المجازر والاغتصاب وانتهاك الأعراض– إلى دفع الناس للتسلح وفتح أبواب السجون أمام إرهابيين كانوا في سجونه ليتمموا المهمة. بعد ذلك لعبت بعض القوى الإقليمية دورها في فتح الباب أمام إرهابيي العالم، فحصلت الكارثة في سوريا. في المقابل، أقول إن الإسلاميون خسروا الحرب، لكن لم يخسرها مدنيو الثورات ونشطاؤها السلميون. الصراع السياسيّ الدولي واضح: لا مكان للإسلاميين في مقابل دعم كبير للدكتاتوريات. حروب الشعوب العربية لأجل الحرية هي مع الدكتاتوريات أما القوى السياسية الإسلامية فعابرة في كلام عابر. هل عجزت الفلسفة عن وضع تعريف للإرهاب يخلو من اللبس؟ مرة أُخرى المشكلة ليست في التعريف وليت السياسة تصغي إلى الفلسفة ويسترشد عميان السياسة ببصيرة الفيلسوف حتى نعيش في عالم أفضل. الفلسفة عرّفت كل المفاهيم التي تشتغل عليها، حتى الاختلافات بين مفاهيمها معرّفة. ما أقصده هنا أن تعريفات مفاهيم مثل الفلسفة، الأخلاق، العقل والدولة، الحق، القانون والسياسة ومع أنها متباينة لدى المرجعيات الفلسفية الكبرى لكن هناك شرح لما تقصده بهذه المفاهيم، بينما السياسة لها مصلحة في إعادة تشكيل تعريف الإرهاب بما يتوافق مع مصالحها الآنية. لا شك أن الفلسفة قادرة على مساعدة السياسة في إيجاد تعريف خالي من اللبس، بالمعنى العمليّ لا النظريّ. يمكن تقديم تعريف تواضعي معياري يتوافق عليه فلسفياً ليتم وضعه موضع التطبيق عن طريق القانون والآليات التنفيذية له، لكن من يريد من السياسيين أن يصغي للفلاسفة؟ في ظل كل تلك الحروب أتساءل ماذا لو حاول الساسة أن يقرأوا ولو لمرة "مشروع للسلام الدائم" لكانط، على سبيل المثال؟ يُقال إن الإرهاب ظاهرة جديدة توازي ظاهرة "الحداثة" نفسها، هل هذا يعني أنها نتاج لها؟ التوازي هو عدم التقاء أو عدم تقاطع، والسؤال الذي تطرحه هنا إِشكاليّ. لا شك أن الحداثة هي بنت العصر البرجوازي، الرأسمالي الأوروبي، لكنها قامت أساساً على مبدأ العقل واحترام الحقوق وعلى أنقاض مرحلة ملاحقة الساحرات مثلاً ومحاكم التفتيش وقتل العلماء المخالفين للكنيسة، أي على أنقاض عصر وسيط كان الإرهاب فيه حاضراً، بل ومعلماً من معالمه. لا شك أن الحداثة الأوروبية نشأت وترافقت مع الثورة الفرنسية وروبسبير و"عصر الرعب"، لكن كل ذلك كانت الحداثة الفكرية بشقها الفلسفي-الأخلاقي-القانوني تعمل على استئصاله وترسيخ مبادئ العدالة والحقوق الإنسانية. ولا شك أيضاً أن الذاتية هي سمة الحداثة الأوروبية كذلك، حيث صار العقل مرجعاً لنفسه وظهرت العلمنة في المجتمعات الأوروبية البرجوازية على حساب الخيمة الدينية الوسيطة الجامعة خالقة حالة من التفكك، لكن كل ذلك لم يؤدِّ برأيي إلى الإرهاب الذي نشهده اليوم ولا يفضي إليه، اللهم إلا إذا كان بصيغة ثأرية قهرية تشبه ما فعلته بعض الجماعات المسيحية المتعصبة أو اليسارية المتطرفة، لكنها لم تلعب دوراً حقيقياً واضحاً في تاريخ أوروبا الحديث. كان كانط من أهم من أسس لمبدأ الذاتية في الفلسفة، لكن ذاتيته أنتجت "العقل العملي" وأفكاره السياسية حول السلام الأبديّ. ومع ذلك فإن سؤالك يحيلنا دون شك إلى نمط من الأسئلة الوجيهة التي كان على الحداثة أن تواجه نفسها بها. في كتابهما الشهير "جدل التنوير"، حاول كل من هوركهاير وأدورنو أن يكشفا كيف أن عقل التنوير انتهى إلى البربرية وكيف وصل في النهاية إلى الأسطورة التي حاول القيام على أنقاضها. لقد حمَّلا عقل التنوير والحداثة، بنغمة نيتشوية، مسؤولية وصول الحداثة إلى العقل الأداتي والحروب والأسطورة وفقدان الحريات في البحث عن الذات وتأسيسها. نجد صدى واضحاً لذلك كذلك عند هايدغر ونقده للعقلية التقنية الحديثة التي جاءت بها الحداثة. وكان نيتشه أهم من فتح هذا الباب لنقد الحداثة وأسس لفلسفات العدمية الغربية. وهناك من قارن بين هايدغر والإسلام الأصولي التكفيري الإرهابي عند أبو الأعلى المودودي، كما فعل أستاذنا الراحل صادق جلال العظم. شخصياً أجد أن من المغالاة الربط بين هذه المرجعيات الغربية الفكرية الأصيلة وبين الإرهاب بشكله الإسلاميّ الذي لا يزيد عن كونه ردة فعل يائسة على مآلات الإسلام وتحجره وتراجعه وتخلف مرجعياته. لكن من ناحية أخرى، أرى أن النزعة القومية التي جاءت بها الحداثة الأوروبية أسّست بشكل واضح لكره الآخر وللمركزية الأوروبية وللاستعمار الإمبريالي الحديث وللفاشيات الغربية كالنازية والفاشية والموسولينية... القومية هي السوسة التي نخرت حلم كانط في السلام الدائم مع أنه لم يتحرّر في تفكيره منها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه