المخرج المصري داود عبد السيد بعيد عن الساحة الفنية لما يزيد عن ثلاث سنوات، منذ آخر أفلامه «قدرات غير عادية»، وبالرغم من ذلك طالته هو الآخر رياح العاصفة المنتشرة في مصر أخيرًا، وهي محاولات الزج بالمعارضين في غياهب السجون، لمجرد رفع أصواتهم للمطالبة بقدر أكبر من الحرية، وأرض تتسع كل الأفكار.
الغريب في أمر داود هذه المرة، هو أن تهمته لم تكن التحريض على نشر الفسق والفجور بالمجتمع؛ كما عُرف عن القضايا التي يكون طرفَها فنانٌ، لكن التهمة ارتدت ثوبًا أكثر خطورة، حين تقدم أحد المحامين، ويُدعى محمد حامد سالم، للنائب العام بالبلاغ الرقم 1494 لسنة 2018، ضد عبد السيد، والمرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي، وجميع أعضاء «الحركة المدنية الديمقراطية»، يتهمهم فيه بالتحريض على قلب نظام الحكم، والإضرار بالأمن القومي، والاقتصاد المصري، بعد أن أعلنوا مقاطعتهم للانتخابات الرئاسية المقبلة.
عبد السيد: ما يُمارس ضدي «بلطجة بالقانون»
«حتى الآن لم يأتِني أي استدعاء جدي من النائب العام، لكني علمت بالبلاغ الذي قدمه هذا المحامي، وعلى كل حال، ما يحدث ليس بجديد، لذلك قابلته في بادىء الأمر بالسخرية على ما آلت إليه الأوضاع، لكني في قرارة نفسي موقن بأن الأمور تسير من سيئ لأسوأ». بهذه الكلمات المازجة بين الحزن والسخرية، استهل المخرج الكبير داود عبد السيد، حديثه لرصيف22، مشيرًا إلى أنه لم يكن يتوقع أن يُقدم ضده بلاغ لأمر سياسي، حيث عُرف لدى قطاع كبير ممن وصفهم بذوي الأفكار الظلامية، بأنه مخرج يحرض على انحلال المجتمع، فكان بديهيًا أن يكون البلاغ ضد أعماله السينمائية، مضيفًا: «يبدو أن الفاشية الدينية لا تختلف كثيرًا عن الاستبداد، كلاهما له أتباعه في الشارع، الذي يريدون إسكات المبدعين، والأصوات الرافضة لأي وضع سيئ، وما فعله هذا المحامي، ومن هم على شاكلته يمارسون بلطجة بالقانون، أو بمعنى آخر، هو نوع من الإرهاب الفكري».عقل ميكروسكوب وقلب تليسكوب
طرح اسم داود على الساحة الإعلامية المصرية أخيرًا، كشخص مطلوب للمثول أمام النائب العام، لاتهامه بتهمة خطيرة كهذه، يُعد أبرز الأحداث «الشخصية»، إن لم يكن الوحيد في حياته كلها؛ فالرجل الذي أتم الحادية والسبعين من عمره، في 23 نوفمبر من العام الماضي، لم يحدث ولو لمرة واحدة وأن تواجد في أحد البرامج يتحدث في أمور شخصية مثل باقي الفنانين، فكل حواراته ــ على نُدرتها ــ تتمحور حول آخر فيلم طرحه بالأسواق، دون الدخول في تفاصيل الفيلم نفسه، ورؤاه الفلسفية على الشريط السينمائي، مؤكدًا على القاعدة التي وضعها منذ بدايته، وهي ترك التفسيرات كلها للمتلقي دون شرح منه كمخرج، أو تنظير من نقاد. تلك الحياة الشخصية الخفية عن الأنظار لعبد السيد، جعلت كل من يريد معرفته، مضطرًا أن يكلف نفسه عناء البحث في سلسلة أفلامه، التي بالرغم من قلتها ــ 9 روائية طويلة و3 تسجيلية، تهدر بأمواج متلاطمة، محطمة التابوهات الثلاثة: الدين، والجنس، والسياسة. النفس البشرية وما يعتمل بداخلها من تناقضات هي شغل داود الشاغل منذ تخرجه من المعهد العالي للسينما عام 1967، حاول أن يعبر عنها في البداية كصحفي فلم يفلح، فامتهن مهنة مساعد المخرج في عدد من الأفلام، أشهرها «الأرض» ليوسف شاهين، علّه يظفر بفرصة، فلم يُكمل، أو كما يقول هو نفسه: «لم أحب مهنة المساعد، كنت تعسًا جدًا، إنها تتطلب تركيزًا أفتقده، وأنا غير قادر على التركيز إلا فيما يهمني فقط، عدا ذلك ليس لدّي أي تركيز»، فحمل كاميرته وجال بها في شوارع مصر، صانعًا أفلامًا تسجيلية أبطالها الناس: «وصية رجل حكيم» 1976، و«العمل في الحقل» 1979، و«عن الناس والأنبياء والفنانين» 1980. يقول الناقد الفني طارق الشناوي: «داود عبد السيد يمتلك عقل ميكروسكوب، وقلب تليسكوب، يقترب بالأول من التفصيلة الدقيقة ليصنع منها عملًا مترامي الأطراف، وفي الوقت ذاته قادر بالثاني أن نرى الكون كله في لقطة واحدة، فبراعته ككاتب ومخرج، جعلته قادرًا على مزج وجدانه مع أحاسيس الناس، ثم يضع كل ذلك على شريط سينمائي لا يتعدى الساعتين، لكنه محفور بالذاكرة».إما التعايش أو الانعزال داخل القوقعة
ـ «الحكاية ابتدت لما صحيت غلط... رُحت الشغل لقيت النهارده إجازة وبس، قابلت سيد مرزوق (...)، وقابلني عمر وخدني على مديرية الأمن، وأنا بخاف من البوليس، هربت منه.. كلام سيد استفز كرامتي، قررت أرفض السجن والحدود اللي حبست نفسي فيهم 20 سنة، حسيت بقوة غريبة، ورغبة في التحرر، في النهاية كانت ليلة غريبة لما خرجت من سجني». ـ «غريبة أنا بحس برغبة في البعد عن العالم، السجن اللي إنت كرهته حماية لينا، لحد ما يبقى الواقع ممكن التعايش معاه، وإنت جوه حدودك بتحافظ على نفسك، زي الحيوان البحري جوه القوقعة». دار ذلك الحوار في آخر مشاهد ثاني فيلم روائي طويل لداود «البحث عن سيد مرزوق»، الصادر عام 1991، بين بطليه نور الشريف، وسامي مغاوري، ويُعد تلخيصًا لرؤيته الخاصة ككاتب ومخرج للتعامل مع السلطة الباطشة، حيث هناك مصيران لا ثالث لهما: إما الانعزال داخل كوقعة إلى أن يتغير الواقع، وهذا يجعلك تعيش أكبر فترة ممكنة، ما لم تمت بالمرض أو الفقر، أو محاولة مقاومة تلك السلطة، فتلقى مصير «يوسف» بطل الفيلم، حيث الإلقاء في صندوق القمامة. تلك النهاية الحتمية بقبول الأمور الواقع، والتعايش السلمي مع عدوان السلطة، بدأها داود في أول أفلامه الروائية الطويلة «الصعاليك» عام 1985، بسرده التشريحات التي طرأت المجتمع المصري في حقبة السبعينيات، وانطلاق الانفتاح الاقتصادي الذي انتهجه السادات، فأصبح عديمو الأخلاق من ذوي الأملاك، فنجد مرسي، وصلاح «نور الشريف، ومحمود عبد العزيز»، اللذين كانا صعلوكين يتهربان من دفع الحساب، أصبحا في قمة الثراء بعد أن عملا في تجارة المخدرات. وفي عام 1995 يحيل داود أوراق قصة خيري شلبي، إلى تحفة فنية على شريط سينمائي في فيلم «سارق الفرح»، حيث إبراز التباين بين الطبقتين العُليا جدًا على الجانب الآخر من القاهرة، والدُنيا للغاية على سفح جبل المقطم، في إنذار واضح للدولة التي لا تعلم شيئًا عما عُرف بعد ذلك بالعشوائيات، وعلى الرغم من تلك الصورة القبيحة التي يحياها هؤلاء الناس، إلا أن عبد السيد اقتنص لحظات الفرحة في حياتهم، حتى ولو كانت مسروقة، أو تأتي نتيجة تنازلات عن كل ما هو مقدس. يصل عبد السيد للحظة الذروة، وقمة الاقتناع بأنه «مفيش فايدة»، ولا مناص سوى القبول بالأمر الواقع، حيث انتصار الجهل على العلم، والظلم على العدل، في فيلم «مواطن ومخبر وحرامي» الصادر عام 2001. الفئات الثلاث تتناحر داخل منزل أشبه بالوطن، يعُج بالتُحف والكتب المهمة، والموسيقى الكلاسيكية، لكنه متهالك، بعدما نهش «المخبر» جدرانه، وانتهك حرمته، وسرق «الحرامي» مقتنياته، ثم وقف «المواطن» عاجزًا مكتوف الأيدي. وضع في غاية السوء كهذا، لم يجد داود له سوى نهاية حتمية، وهي تماهي تلك الفئات بالنسَب والمصاهرة، والاشتراك في عمل واحد يجمعهم. تلك النظرة المتشائمة الرافضة لأي تغيير، والقانعة بالأمر بالواقع، والمُطالِبة أحيانًا بالتعايش معه، في عالم داود عبد السيد السينمائي، لم تختلف كثيرًا عن الموقف الحياتي له على أرض الواقع، حين اقتنع هو ورفاقه في «الحركة المدنية الديمقراطية»، بأن لا سبيل سوى مقاطعة انتخابات رئاسية بطلها مرشح واحد، ولا تحمل أي قدر من التنافسية؛ لكن الفرق بين الشاشة والواقع، أن الأخير كان سببًا في ظهور دعوى لمثوله أمام النائب العام، إنذارًا له بالانزواء داخل حدوده «حفاظًا على نفسه.. زي الحيوان البحري جوه القوقعة».رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...