أبرز الانتقادات الموجهة لمفهوم الدولة المعاصرة هي احتكارها للعنف، أي أن السيادة، هي التي تتحكم بحق الحياة وحق الموت، كما أنها تضمن أمن "المواطنين"، ومسؤولة قانونيّاً عن حماية "الإنسان" وشروط حياته.
لكن، بعد إلقاء القنبلة الذريّة، والصدمة التي سببتها، دخل العالم حقبة جديدة، تحولت الحرب إلى إبادة، تُفني المكون البشريّ نفسه، كما ازداد احتكار الدولة للعنف عبر أنظمة الشرطة والحرب والصيد، إلى جانب ترسانات الأسلحة النوويّة، فنهاية الحرب لم تكن "سلاماً دولياً"، بل انتصاراً تحول إلى حرب باردة.
حسب تعبير حنا أردنت، أبرزت التكنولوجيا النوويّة الرغبة بالمغادرة نحو عوالم أخرى، كون "الكوكب" فقد القدرة على أن يكون على تناغم مع سكانه، وتلبيّة مطالب "حياتهم".
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، استبُدلت سرديات السلام العالمي، بالحرب ضد الإرهاب، حرب كونيّة ذات أعداء غامضين نوعا ما، لا يمكن تحديدهم، ولا بد من مطاردتهم في كل مكان، داخل الأراضي الأمريكيّة أو خارجها.
وحسب ما جاء في خطاب جورج بوش الابن: "عدونا شبكة رجعية من الإرهابيين، وكلّ حكومة تدعمهم"، جاعلاً الجميع موضع شبهة، ليتحول السلام إلى فكرة يوتوبيّة كون العدو في كل مكان.
على الطرف الآخر، أدى التطور التكنولوجي الحالي إلى فقدان الدولة -نوعاً ما- احتكارها للعنف وأدواته، ليصبح ديمقراطياً. أي أن الدولة ليست الوحيدة التي توجهه ضد الأفراد والكوكب عبر أجهزة القمع والماكينات الصناعيّة التي توظفها.
فالصناعات الاستهلاكيّة المتطورة، ساهمت بظهور شكل جديد من الأسلحة، التي يمكن تصنيعها منزلياً، إلى جانب ممارسة القتل غير المباشر، عبر الاستهلاك في سبيل استمرار الحياة، كون الدولة المعاصرة النيولبراليّة، خرّبت شروط الحياة، وحولتها إلى شروط لتسميم الكوكب ومن عليه لأجل الاستمرار.
الكثير من المقولات تبشّر بفناء الشكل البشري، ولابد من إيجاد شروط جديدة. الكوكب يضيق بنا، فنحن نمارس عنفاً على بعضنا البعض، وعلى الكوكب دون أن ندري أحياناً.
السبب أن سياسات الاستهلاك حولتنا إلى أشبه بفيروسات، نبحث عن احتمالات حياة جديدة حسب تعبير الأمريكية إليزابيث بوفينيلي، إذ هناك شكل من "الحياة" يملك خصائص الاستمرار في ظل السموم الهائلة، فنحن "نسممّ" بعضنا البعض، حتى لو كنا نسعى للحياة فقط، فعمليات استهلاك وصناعة الطعام والشرب والوقود، كلها تسمم جزءاً وتخرب جزءاً آخر، وخصوصاً أن السموم التي تحويها الشروط البشرية الجديدة تجبرنا على العيش ضمنها، لنقف أمام خيار إما قتل بعضنا البعض -ولو بصورة غير مباشرة-، أو الموت جميعاً.
دائرة الاستهلاك هذه تحضر في أقل المنتجات ضرراً بصورة نظرية، وهي الهواتف النقالة، إذ تعتمد بطارياتها على مادة الكوبالت، التي يستخرجها الأطفال في أفريقيا، فنحن نلتقط السيلفي في ذات الوقت نساهم بعذاب طفل في أفريقيا، ذات الشيء في الطعام العضويّ، الذي لا يختلف عن ذاك المعلب بصورة "عاديّة" والمتلاعب به جينياً، هو فقط ذو تكلفة أكثر وضرر غير مباشر علينا وعلى "الأرض".
هل أصبح "السلام" فكرة يوتوبية؟
خرّبت الدولة المعاصرة النيولبراليّة، شروط الحياة، وحولتها إلى شروط لتسميم الكوكب ومن عليه لأجل الاستمرار.
حسب تعبير حنا أردنت، أبرزت التكنولوجيا النوويّة الرغبة بالمغادرة نحو عوالم أخرى، كون "الكوكب" فقد القدرة على أن يكون على تناغم مع سكانه، وتلبيّة مطالب "حياتهم".
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، استبُدلت سرديات السلام العالمي، بالحرب ضد الإرهاب، حرب كونيّة ذات أعداء غامضين نوعا ما، لا يمكن تحديدهم، ولا بد من مطاردتهم في كل مكان، داخل الأراضي الأمريكيّة أو خارجها.
وحسب ما جاء في خطاب جورج بوش الابن: "عدونا شبكة رجعية من الإرهابيين، وكلّ حكومة تدعمهم"، جاعلاً الجميع موضع شبهة، ليتحول السلام إلى فكرة يوتوبيّة كون العدو في كل مكان.
على الطرف الآخر، أدى التطور التكنولوجي الحالي إلى فقدان الدولة -نوعاً ما- احتكارها للعنف وأدواته، ليصبح ديمقراطياً. أي أن الدولة ليست الوحيدة التي توجهه ضد الأفراد والكوكب عبر أجهزة القمع والماكينات الصناعيّة التي توظفها.
فالصناعات الاستهلاكيّة المتطورة، ساهمت بظهور شكل جديد من الأسلحة، التي يمكن تصنيعها منزلياً، إلى جانب ممارسة القتل غير المباشر، عبر الاستهلاك في سبيل استمرار الحياة، كون الدولة المعاصرة النيولبراليّة، خرّبت شروط الحياة، وحولتها إلى شروط لتسميم الكوكب ومن عليه لأجل الاستمرار.
مسدسات منزليّة الصنع
تمتلك الدولة سلطة الرقابة على الأسلحة، وضبط توزعها بين المواطنين، وبالرغم من النقاشات المختلفة حول حق اقتناء السلاح ودستوريته، تبق الدولة وكتلتها البشريّة "شرطة- جيش" هي التي تمتلك عدد الأسلحة الأكثر، وخصوصاً أن تصنيعها مكلف. لكن، مع الطباعة ثلاثية الأبعاد، دخلت الأسلحة حيزاً جديداً، نحن أمام نوع جديد لا يمكن تتبعه أو معرفة مصدره، هي أسلحة خفيّة، لا يمكن معرفة من حصل عليها أو إدانة من استخدمها كونها لا تترك أثراً ولا تكشفها أجهزة كشف المعادن. ما حدث أن الأناريكي كودي ويلسون، قام مؤخراً بنشر التعليمات والمخططات الخاصة بطباعة مسدس ثلاثي الأبعاد في المنزل اسمه "المحررّ" (The liberator)، إذ يمكن تحميل وشراء المواد ووضعها في الطابعة، وبعد عدة ساعات يصبح لدينا مسدس، لم يعتقل كودي حتى الآن، فهو يمارس حق تبادل المعلومات الذي يضمنه الدستور الأمريكي، بوصف هذا الحق جزء من حرية التعبير. بالرغم من الجدل الذي أثاره ويلسون، ومنع تبادل هذه "المخططات" بقرار محكمة، إلا أن هناك ما يفوق النصف مليون شخص قاموا بتحميلها، وخصوصاً أن تكاليف صناعة المسدس لا تتجاوز بضعة آلاف من الدولارات، كما أنه وبعد عدد من الدعاوى القضائيّة، قام بنشر التعليمات، الخاصة بطباعة بندقية هجوميّة، مؤكداً أنه مدافع عن الحريّة ومناهض لمركزية الدولة. ما يبشر به كودي هو عصر جديد من العنف، إذ لم يعد سلاح القتل الأشهر، مُكْلفاً أو من الصعب الحصول عليها، بل أصبح من الممكن صناعته في المنزل، وطباعة عدة نسخ منه، دون أن يعلم أحد، ما يفكك قدرة الدولة على الهيمنة على السلاح، والتحكم بتوزعه ومن له حق حيازته.استبُدلت سرديات السلام العالمي، بالحرب ضد الإرهاب، حرب كونيّة ذات أعداء غامضين نوعا ما، لا يمكن تحديدهم، ولا بد من مطاردتهم في كل مكان
مع الطباعة ثلاثية الأبعاد، دخلت الأسلحة حيزاً جديداً، نحن أمام نوع جديد لا يمكن تتبعه أو معرفة مصدره، ولا تكشفه أجهزة كشف المعادن
"درون" الحديقة الخلفيّة
يمتلك الأمريكي فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب "نهاية التاريخ"، هواية ملفتة للنظر، إذ يقضي الكثير من وقته في باحة منزله الخلفيّة، يصنع درونات (طيارات بدون طيار) يتحكم بها من بعد، ويقول أن ما ألهمه لبناء الدرون، هو الأبعاد الجديدة التي سيتيحها له أثناء ممارسته لهواية التصوير. لكن منذ أن بدأ بصناعته، أصبح المشروع منفصلاً، كونه الآن يحاول أن يستكشف الإمكانيات التي تقدمها مقاربة "اصنعها بنفسك"، وخصوصاً في مجال صناعة الدرون. خطورة الدرون أو "البريديتور" الذي بدأ استخدامه كوسيلة للقتل منذ نهاية التسعينات، أنه متوافر للجميع ومن السهل تسليحه. وبعيداً عن استخدام الجيوش له وتحويلهم العالم إلى مساحة للصيد، يشكل الدرون المنزلي وسيلة خفية لممارسة العنف عن بعد، هو يفصل جسد "القاتل" عن "السلاح"، إلى جانب صعوبة تتبعه. هو وسيلة للاعتداء من جهة، وللحماية، كونه يستخدم أيضاً للمراقبة. https://youtu.be/lmD3rXUR1Twالاستهلاك كشكل من أشكال العنف
الكثير من المقولات تبشّر بفناء الشكل البشري، ولابد من إيجاد شروط جديدة. الكوكب يضيق بنا، فنحن نمارس عنفاً على بعضنا البعض، وعلى الكوكب دون أن ندري أحياناً
الكثير من المقولات تبشّر بفناء الشكل البشري، ولابد من إيجاد شروط جديدة. الكوكب يضيق بنا، فنحن نمارس عنفاً على بعضنا البعض، وعلى الكوكب دون أن ندري أحياناً.
السبب أن سياسات الاستهلاك حولتنا إلى أشبه بفيروسات، نبحث عن احتمالات حياة جديدة حسب تعبير الأمريكية إليزابيث بوفينيلي، إذ هناك شكل من "الحياة" يملك خصائص الاستمرار في ظل السموم الهائلة، فنحن "نسممّ" بعضنا البعض، حتى لو كنا نسعى للحياة فقط، فعمليات استهلاك وصناعة الطعام والشرب والوقود، كلها تسمم جزءاً وتخرب جزءاً آخر، وخصوصاً أن السموم التي تحويها الشروط البشرية الجديدة تجبرنا على العيش ضمنها، لنقف أمام خيار إما قتل بعضنا البعض -ولو بصورة غير مباشرة-، أو الموت جميعاً.
دائرة الاستهلاك هذه تحضر في أقل المنتجات ضرراً بصورة نظرية، وهي الهواتف النقالة، إذ تعتمد بطارياتها على مادة الكوبالت، التي يستخرجها الأطفال في أفريقيا، فنحن نلتقط السيلفي في ذات الوقت نساهم بعذاب طفل في أفريقيا، ذات الشيء في الطعام العضويّ، الذي لا يختلف عن ذاك المعلب بصورة "عاديّة" والمتلاعب به جينياً، هو فقط ذو تكلفة أكثر وضرر غير مباشر علينا وعلى "الأرض".
فناء أشكال الحياة
يترافق التهديد النوويّ والسموم التي تسببها الحوادث النوويّة كتشينرنوبل وفوكوشيما، بتهديد أشكال الحياة البشريّة، ذات الشيء في الصناعات الثقيلة والخطرة التي تهدد حياة القاطنين حول المصانع وسمومها، وتدفع بهم نحو المدن ومراكز السموم الاستهلاكيّة. هذه السياسات والبرامج "السلميّة" لتوليد الطاقة، تحمل داخلها احتمال فناء العنصر البشريّ وموطنه، وتدفع الفرد نحو المدن ليشارك في أنظمة الاستهلاك/ التسميم، التي لابد أن يكون جزء منها ليضمن حياته، إذ نرى مدناً فارغة بسبب الإشعاع. كما أن التشوهات والسرطانات المحتملة، تنفي أشكال الحياة المستقبليّة، وتدفع الناس للرحيل تاركين وراءهم مدناً للأشباح، حاملين داخلهم جينات تهدد مستقبل تناسلهم واستمرارهم. https://youtu.be/xZa-Wdla9QA ذات الشيء مع أشكال الحياة الأخرى، فالسياسات النيوليبراليّة التي تمارس التسميم الممنهج، عبر استبدال البنى المادية الطبيعيّة بأخرى تجاريّة تضمن استمرار الإنتاج، وتضمن الربح وتهدد الأشكال الطبيعيّة وكائناتها.البديل الأناركيّ الديمقراطيّ
تحول العنف إلى ديناميكيّة تخرب العنصر البشري وشروطه الطبيعيّة، وكأننا أمام صيغة أناركيّة ديمقراطيّة، تتلاشى فيها الدولة، ويمارس فيها كل فرد حريته المطلقة، وخصوصاً في ظل تداول العنف، بحيث يصبح الحفاظ على الحياة جهداً فردياً أو على مستوى تجمعات صغيرة، تحكم أفرادها مقومات الحياة لا الربح. كما في فيلم ماد ماكس-Mad Max، حيث الصراع على المياه والحليب. وهنا، تبرز استحالة مقولات السلام، كون الدولة تبذل جهوداً مادية ورمزية لوضع الجميع تحت سيطرتها، وضبط حياتهم وتقنينها، حتى لو كانت هذه الحياوات "مستمرة" خارج سيادة الدولة، كون مساحات الأرض ومن عليها من بشر يشكلون هدفاً للاستثمار، سواء كان ذلك في التربة أو الجسد البشريّ، وهذا ما نراه في الصراع الطويل في فرنسا بين الحكومة وبين قاطني "نوتر دام دي لاند- Notre-Dame-des-Landes" الذين منعوا الدولة من إقامة مطار في المنطقة شرقي فرنسا، معتمدين على جهودهم الفرديّة في تأمين طعامهم وشرابهم، وفي ذات الوقت هم في صراع دائم و عنيف مع الشرطة التي تحاول إخلاءهم.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...